لم يترك ابن الجوزي من أخبار الحمقى والمغفلين شيئا إلا ذكره في كتابه، ابتدأ بأخبارهم من القراء والمحدثين ثم ممن كان منهم من رواة الحديث والمصحفين، أو من الأمراء والولاة والقضاة، أو من الكتاب والحجّاب أو الأئمة والمؤذنين، أو من الأعراب، أو من القصاص والوعاظ والمتزهدين، أو من المعلمين والحاكة. الحقيقة أنه لم يترك خبرا عن مغفل أو أحمق إلا ونقله إلينا، فكان كتابه جامعا لذكر المغفلين والحمقى، كما ذكر بعضا من أقوال الحمق والغفلة مما يصدر عن العاقلين في بعض الأحيان. لكن ما يثير الدهشة أن الحماقة والغفلة إذا صدرت من الحمقى والمغفلين قد تنتزع الضحك من الأفواه، لأنها تأتي عفو الخاطر دون تصنع أو تكلف. لكنها إذا أتت من العقلاء تفجر الضحك تفجيرا على أفواه السامعين أو المشاهدين أو الذين قاموا بالغفلة، وذلك لأنها زيادة على كونها ظهرت دون قصد، إلا أنها ظهرت من العاقل عفو الخاطر ودون أن يدري، وهو يعتقد كل الاعتقاد أن ما قام به هو عمل جيد غير مستهجن وغير مضحك. حتى إذا فاق إلى رشده، لا يتمالك نفسه من الارتماء والقهقهة أضعاف ما يضحك مما يرى من الحمقى أنفسهم المعروفين بهذه الصفات. حسب ابن الجوزي، فإن من الأسباب التي دفعت إلى تأليف كتاب عن «أخبار الحمقى والمغفلين»، هو التفكه والتندر والضحك هربا من الجد المتواصل. لأن النفس تميل إلى المباح في اللهو لتجد بعض الراحة ثم تستأنف ما درجت عليه. إن مرأى المغفلين وسماع أحاديثهم يحث على الأسى والألم لجانبهم، وعلى الحمد والشكر لله على النعمة التي أنعمها علينا ورزقنا كمال العقل والجسم واليقظة. إن أخبار الحمقى والمغفلين عبر، يعلمنا إياها الزمان، ويحثنا على الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يوقعنا في الحمق والجهل، وتكونا دروسا فياضة بالحكمة والفلسفة الحية التي نهجها الإنسان لنفسه بعيدا عن الغفلة. فما من أحد إلا ويستهويه أن يسمع فكاهة نادرة تثير فيه الضحك من كوامنه، فيسعى وراء كتاب في النوادر أو الأمثال الشائعة يقرأها قبل سواها.. كان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب صديقا للوليد يأتيه ويؤانسه، فجلسا يوما يلعبان الشطرنج، إذ أتاه الآذن فقال: «أصلح الله الأمير، رجل من أخوالك من أشراف ثقيف قدم غازيا، فأحب السلام عليك»، فقال: «دعه»، فقال عبد الله: «وما عليك، ائذن له، فإذا هو رجل له هيبة وبين عينيه أثر السجود»، فسلم ثم قال: «أصلح الله الأمير، قدمت غازيا، فكرهت أن أجوزك حتى أقضي حقك». فقال: «حياك الله وبارك عليك». ثم سكت عنه، فلما أقبل عليه الوليد فقال: «يا خال هل جمعت القرآن»؟ قال: «لا، كانت شغلتنا عن ذلك الشواغل». قال: «فأحاديث العرب وآدابها؟»، قال: «لا»، فرفع الوليد المنديل عن رقعة الشطرنج وقال: «لا والله ما معنا في البيت أحد»، فلما رأى ذلك الرجل خرج وأقبلا على لعبهما. ومن خصال الأحمق فرحه بالكذب من مدحه، وتأثره بتعظيمه، وإن كان غير مستحق لذلك. وكان الحسن يقول: «خفق النعال خلف الأحمق قلما يلبث». وقال زيد بن خالد: «ليس أحد أحمق من غني قد أمن الفقر وفقير قد آيس من الغنى». وقال الأصمعي: «إذا أردت أن تعرف عقل الرجل في مجلس واحد، فحدثه بحديث لا أصل له، فإن رأيته أصغى إليه وقبله» فاعلم أنه أحمق، وإن أنكره فهو عاقل». بعض الحكماء يصف أخلاق الحمق وقال بعض الحكماء: «من أخلاق الحمق، العجلة والخفة والجفاء والغرور، والفجور والسفه والجهل والتواني، والخيانة والظلم، والضياع والتفريط والغفلة والسرور والخيلاء والفجر والمكر. إن استغنى الأحمق بطر أي تكبر، وإن افتقر قنط، وإن فرح أشر، وإن قال فحش، وإن سئل بخل، وإن سأل ألح، وإن قال لم يحسن، وإن قيل له لم يفقه، وإن ضحك نهق، وإن بكى خار (أي صاح)». وقال بعض الحكماء: «يعرف الأحمق بست خصال؛ الغضب من غير شيء، والإعطاء في غير حق، والكلام من غير منفعة، والثقة بكل أحد، وإفشاء السر، وألا يفرق بين عدوه وصديقه، ويتكلم بما يخطر على قلبه، ويتوهم أنه أعقل الناس». علامات الحمق وقال أبو الحاتم بن حيان الحافظ: «علامة الحمق سرعة الجواب، وترك التثبت، والإفراط في الضحك، وكثرة الالتفات، والوقيعة في الأخيار، والاختلاط بالأشرار، والأحمق إن أعرضت عنه أعتم، وإن أقبلت عليه اغتر، وإن حلمت عنه جهل عليك، وإن جهلت عليه حلم عليك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، وإن أسأت إليه أحسن إليك، وإذا ظلمته أنصفت منه، ويظلمك إذا أنصفته، فمن ابتلي بصحبة الأحمق فليكثر من حمد الله على ما وهبه إياه مما حرمه ذاك». قال محمد الشامي: لنا جليس تارك للأدب *** جليسه من قوله في تعب يغضب جهلا عند حال الرضى *** ومنه يرضى عند حال الغضب في التحذير من صحبة الأحمق لا تؤاخ الأحمق قال أحدهم: «لا تؤاخِ الأحمق، فإنه يشير عليك ويجهد نفسه فيخطئ، وربما يريد أن ينفعك فيضرك، وسكوته خير من نطقه، وبعده خير من قربه، وموته خير من حياته». وقال ابن أبي زياد: «قالي لي أبي: يا بني، الزم أهل العقل وجالسهم واجتنب الحمقى، فإني ما جالست أحمق فقمت، إلا وجدت النقص في عقلي». لا تغضب الحمقى عن عبد الله بن حبيق قال: «أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: لا تغضب على الحمقى فيكثر غمك». وعن الحسن قال: «هجران الأحمق قربة إلى الله عز وجل». وعن سلمان بن موسى قال: «ثلاثة لا ينتصف بعضهم من بعض؛ حليم من أحمق، وشريف من دنيء، وبر من فاجر». الناس أربعة أصناف وكذلك روينا عن الأحنف بن قيس أنه قال: «قال الخليل بن أحمد: الناس أربعة؛ رجل يدري ويدري أنه يدري، فذاك عالم فخذوا عنه، ورجل يدري وهو لا يدري أنه يدري، فذاك ناس فذكروه، ورجل لا يدري وهو يدري أنه لا يدري، فذاك طالب فعلموه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذاك أحمق فارفضوه». وقال أيضا: «الناس أربعة، فكلم ثلاثة، ولا تكلم واحدا، رجل يعلم ويعلم أنه يعلم فكلمه، ورجل يعلم ويرى أنه لا يعلم فكلمه، ورجل لا يعلم ويرى أنه لا يعلم فكلمه، ورجل لا يعلم ويرى أنه يعلم فلا تكلمه». قال جعفر بن محمد: «الرجال أربعة؛ رجل يعلم ويعلم أنه يعلم فذاك عالم فتعلموا منه، ورجل يعلم ولا يعلم أنه يعلم فذلك نائم فنبهوه، ورجل لا يعلم ويعلم أنه لا يعلم فذاك جاهل فعلموه، ورجل لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم فذاك أحمق فاجتنبوه».