تثير مسألة التعليم العمومي إشكالية كبرى في الفكر الحر، حتى إن بعض الفلاسفة والمفكرين اللاسلطويين الأحرار مثل الأمريكيين موراي روثبارد وهنري ديفيد ثورو وغيرهما، نادوا فعليا بإلغاء التعليم الذي توفره الدولة، وترك مهمة تعليم الناشئة للسوق الحر والمجتمع المدني والأسر (التعليم في المنزل). أما إذا لم نساير هذه الآراء، التي قد تبدو في نظر الكثيرين متطرفة، فلننظر إلى أكثر الآراء الليبرالية اعتدالا في الموضوع، ولن نجد في هذا الباب أفضل من المفكر الإنجليزي، جون ستيوارت ميل، لكشف مخاطر التعليم العمومي. يقول صاحب الكتاب الشهير «عن الحرية»: «التعليمُ العام في الدولة هو مجردُ وسيلة لقولبة الناس ليصبحوا نماذج متشابهة تماماً»، ويضيف: «إن القالب الذي سيسكبون فيه (المتعلمون) هو ذلك الذي يسرُّ السلطة المهيمنة في الحكومة، سواءً كانت ملكاً، أو كهنة، أو سلطة أرستقراطية أو سلطة أغلبيةِ الجيل الموجود حالياً بقدر يناسب كفاءتها ونجاحها، فإن هذا القالب يصبح استبداداً بالعقل يؤدي بحكم الميل الطبيعي إلى استبدادٍ بالجسد». إن الاعتراض الذي أبداه ميل إنما بسبب خطورة التعليم العمومي على نشأة وتطور العقل، فهذا التعليم يقتل موهبة الأفراد وينمط عقولهم، ويجعلهم جيوشا ممن حاربوا الأمية وحاربوا الموهبة أيضا، واقفين في طوابير متشابهة فاقدة القدرة على النقد والإبداع. وبهذا تكون الدولة قد ربحت رهانها الذي يتجلى أساسا في تمكين سلطانها، وليس تكوين أفراد أحرار مستقلين ومسؤولين، كما قد يعتقد البعض. إن الرهان، إذن، على الدولة لكي تعلم الأفراد وتجعل منهم أحرارا، رهان خاسر، بل هو رهان ضد التنوير وضد الحضارة. إن الحضارة التي ندين بها لفئة قليلة من العباقرة والمبدعين الاستثنائيين لا يمكن أن نرهنها لمؤسسة فشلت في مهام ووظائف أسهل بكثير من مهمة تعليم الأجيال وتكوينهم، مثل مهمتي فرض الأمن وتحقيق العدالة، بل وفي بعض البلدان فشلت الدول حتى في تنظيف الشوارع وتوفير المياه الصالحة للشرب. لقد نادى ميل بتنوع التعليم؛ فبما أننا لا يمكن أن نسحب هذا السلاح من يد الدولة بشكل كامل، إذ يستنكر هذا المفكر الكبير أن «يكون التعليم كله أو جزء كبير منه في يد الدولة. فكلُّ ما قيل عن أهمية تفرد الشخصية وتنوع الآراء وأشكال السلوك، يتضمن بالدرجة نفسها من الأهمية تنوع التعليم». ويقترح أن «يكون هناك تعليم تؤسسه وتديره الدولة، وينبغي أن يكون جزءاً واحداً من تجارب متنافسة عديدة يعمل من أجل القدوة والحافز ولإبقاء الآخرين في مستويات ممتازة معينة». وإذا ما رأينا اليوم في أغلب البلدان تنازلا من الدولة في هذا المجال، فليس طوعا، وإنما هي مكرهة بسبب الفشل وتراكم المهام والوظائف عليها، وتحرر بعض الناس من الدولة والاشتغال لفائدتها في بيروقراطيتها المتكلسة. وفي بلدان كثيرة، لا يكاد هذا التنازل عن جزء من وظيفة التعليم إلا أن يكون تنازلا مزيفا، إذا ليس للسوق الحر والمجتمع المدني من هامش كبير في اختيار المناهج وتعليم الناس، بل هو مقيد، ولا يعدو السوق إلا أن يكون منفذا أمينا لما ترتضيه الدولة ورجالها. وذلك عكس ما نجده في بقية المجالات الاقتصادية، حيث السوق حر في الإبداع وتقديم منتجات جديدة كليا عما هو مألوف، وهذا لا يدعو إلى العجب، بقدر ما يؤكد أن مؤسسة الدولة مستميتة في الاحتفاظ بهذه الوظيفة التي تدجن بواسطتها الأفراد. إن هيمنة الدولة لا تكون عن طريق احتكار العنف فقط، ولكن عن طريق احتكار مراقبة المدرسة وتوجيهها لتحقيق أهداف سياسية تتماشى ورؤية القائمين على شؤون الحكم.