بدأت المعالم الجديدة لعهد الملك محمد السادس تظهر من خلال الإعلان عن مجموعة من الاوراش والإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما ركز منذ وصوله إلى السلطة على المدخل التنموي بشكل لافت (الإعلان عن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، الأوراش الكبرى مثل طنجة المتوسط، إنشاء مناطق صناعية كبرى، تقوية البنيات التحتية..). ويأتي في مقدمة الأوراش الكبرى، الأقطاب المينائية، كمشروع طنجة الكبرى لتعزيز المركب المينائي طنجة المتوسط الذي أطلق في فبراير 2003 والذي يضم ميناء للمياه العميقة ومنطقة حرة للوجستيك (90 هكتار) ومنطقة صناعية (600 هكتار) ومنطقة للأنشطة التجارية (200 هكتار)، فضلا عن عدة مشاريع سياحية. وتمت توسعة هذا الميناء (طنجة المتوسط 2) أواخر الشهر الماضي من هذه السنة، الذي يعتبر أكبر ميناء في إفريقيا، والأول في حوض البحر الأبيض المتوسط. وفي إطار سياسة الأقطاب المينائية، أشرف الملك محمد السادس، على إطلاق ميناء “الناظور غرب المتوسط”، حيث من شأن هذا المركب المينائي، أن يعزز إلى جانب ميناء طنجة المتوسط مؤهلات المنطقة الشمالية للمغرب، ويجعلا منها نقطة محورية في الخريطة العالمية للنقل البحري. هذا بالإضافة إلى ميناء الداخلة الأطلسي الذي سيكون منصة المغرب تجاه إفريقيا. مشاريع أخرى لا تقل أهمية، كمشروعي ترامواي الرباطسلا، والبيضاء اللذين أطلقا على التوالي في ماي 2011 ودجنبر 2013، من أجل تخفيف ضغط حركة السير داخل المجال الحضري، وتعزيز البعد البيئي من خلال استخدام الطاقة النظيفة. أما بالنسبة إلى البنيات الأساسية، كالطرق السيار، والطرق القروية، والمدن الصناعية في كل من طنجة والقنيطرة، فقد شكلت الجانب المضيء في العشرين سنة الماضية، والتي جعلت المملكة محط انبهار وإعجاب من طرف مختلف الدول العربية والإفريقية، بل أصبح البعض ينظر إلى المغرب كنموذج ملهم وناجح على المستوى الاقتصادي، وعلى مستوى تطوير البنيات الأساسية. ورش آخر حيوي ومهم يوليه الملك أهمية كبيرة، وهو ورش الطاقات المتجدد، حيث لأول مرة في تاريخ المغرب سيتم اعتماد مخطط للطاقة الشمسية في إطار الإستراتيجية الطاقية للمملكة، والهدف من مخطط الطاقة الشمسية هو إنتاج ألفي ميغاواط، في أفق 2020، وذلك عبر خمسة مواقع، وهي ورزازات وبني مطهر وفم الواد وبوجدور وسبخة الطاح. طفرة نوعية على مستوى الاقتصادي شهدها المغرب خلال العشرين سنة من حكم الملك محمد السادس، غيرت من معالم ومكانة المملكة، لكنها لم تنعكس على المستوى التنموي، الذي شكل ركيزة أساسية خلال هذه المرحلة، إذ انعكس وبشكل سلبي الجمود السياسي وضعف النخب الموجودة وغياب الحكامة وعدم تفعيل مؤسسات الرقابة في تغلغل وانتشار الفساد الإداري والمالي، مما أدى في النهاية إلى انحسار وفشل النموذج التنموي بإقرار صريح من طرف الملك شخصيا. مؤشرات تنموية لم تكن في مستوى التطلعات، خاصة في مجال التعليم والصحة والسكن والشغل، إذ ارتفعت نسبة البطالة بشكل كبير(حسب المندوبية السامية للتخطيط وصلت إلى 9,8 سنة 2018/ و10,2 سنة2017)، وبروز اختلالات مجالية، الأمر الذي يضع السياسات العمومية المتبعة موضع تساؤل، خاصة وأن الاحتقان الاجتماعي بلغ مستويات غير مسبوقة. لكن المثير أنه رغم الاعتراف الملكي بفشل المشروع التنموي والدعوة، من خلال خطاب افتتاح الدورة التشريعية الخريفية الأخيرة، إلى تشكيل لجنة للإشراف على إعداد وبلورة مشروع تنموي جديد، إلا أنه وبعد مرور ما يقارب عشرة أشهر، ما تزال حالة الانتظار والترقب هي السائدة. حقوق الإنسان والحريات.. الريف وجرادة المفهوم الجديد للسلطة، هيئة الإنصاف والمصالحة، العدالة الانتقالية، هي عناوين كبرى طبعت بداية مسار حكم الملك محمد السادس، حيث تم الإقرار والاعتراف بالاختلالات التي شابت وتشوب علاقة المواطن بالسلطة، ومحاولة التأسيس لعلاقة جديدة تقوم على مرتكزات ومفاهيم مغايرة للسابق. على مستوى الملف الحقوقي، وجد الملك على طاولة حكمه بعض الملفات الحارقة، وكان من بينها ملف ما يُعرف بسنوات الجمر والرصاص، وهو ملف يتعلق بمرحلة درامية عاشها المغرب، اتسمت بالتعذيب والاعتقالات والاختفاء القسري. لم يتأخر الملك في التعاطي بجرأة كبيرة مع هذا الملف، حيث لم يتردد في إعطاء موافقته على توصية المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة لتسوية ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. ليتم الإعلان في يناير 2004 عن هذه الهيئة، التي كلفت بطي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، خلال الفترة ما بين 1956 و1999، من خلال العمل على الطي النهائي لهذا الملف، وتعزيز التسوية العادلة غير القضائية، وتضميد جراح الماضي، وجبر الضرر. لا يختلف اثنان أنه كان لهذه المحطة أثر بالغ الأهمية في تاريخ المغرب المعاصر، بعدما نقلت جلسات الاستماع على شاشة التلفزيون وأمواج الإذاعة، وتابع المغاربة بذهول الشهادات المؤلمة لبعض الضحايا وأقاربهم، مما دفع بالمتشائمين أكثر في الملف الحقوقي، إلى الإقرار بأن المملكة دخلت منعطفا جديدا وأغلقت قوس الانتهاكات والتجاوزات. المصالحة مع الماضي عززت بترسانة قانونية، والمصادقة على اتفاقيات دولية تهم حقوق المرأة والطفل، والانخراط في المنظومة الكونية على مستوى منع التعذيب وضمان شروط المحاكمة العادلة، وإقرار مدونة الأسرة سنة 2004 عبر التحكيم الملكي، بعد انقسام المجتمع، حيث اعتبرت هذه المدونة آنذاك، ثورة غير مسبوقة لما تضمنته من حقوق وضمانات للمرأة. هذا التحول والنفس الجديدين على مستوى الممارسة الحقوقية والمنظومة القانونية المرتبطة بحقوق الإنسان والحريات العامة، اصطدما بأحداث ووقائع أثرت سلبا على صورة المملكة وعلى الجهود التي بذلت سابقا، حيث فتحت أحداث الحسيمة التي وقعت سنة2017 وأحداث جراد سنة 2018، النقاش من جديد حول الوضع الحقوقي بالمغرب. نقاش أثير من طرف المنظمات الحقوقية والصحافة، وتفاعلت معه المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان، حيث أصدرت تقريرا يوم 4 يوليوز من هذه السنة. تفاعل الدولة مع التقارير والنقاشات، وإصدار المندوب الوزاري تقريرا في هذا الموضوع، يؤكد أن هناك وعيا على ضرورة معالجة الإشكاليات الراهنة بالشكل الذي يحفظ هيبة الدولة، وفي الوقت عينِه يضمن حريات وحقوق الأفراد، ويجنب المغرب الوقوع في الأخطاء السابقة. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة، إلى أن ملف الريف، حظي باهتمام خاص من طرف الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش، فعند استقراء أو محاولة فهم ما جرى ويجري على مستوى علاقة الدولة بمنطقة الريف مند الاستقلال إلى اليوم، فالأكيد أن هذه العلاقة تحتاج إلى الفهم وإلى الدراسة. وبقراءة سريعة لتاريخ وواقع ومستقبل علاقة الدولة بمنطقة الريف، يمكن الإشارة إلى محطتين أساسيتين : تمتد المحطة الأولى طيلة عهد الراحل الملك الحسن الثاني، إذ اتسمت هذه العلاقة بشكل عام بالتوتر أو بسوء الفهم، أو في أقصى الحالات بنوع من البرود والفتور، بفعل تراكم مجموعة من الأحداث والوقائع التي لا يتسع المجال للخوض فيها . الثانية، وتمتد منذ تولي الملك محمد السادس الحكم إلى سنة 2017، حيث قام الملك بعدة مبادرات ومجهودات لطي صفحة الماضي المتشنجة، وعمل على فتح عدة أوراش تنموية في كافة مناطق الريف (الريف بمفهومه الجغرافي يمتد من طنجة إلى تخوم وجدة)، بالإضافة إلى قيامه بمبادرات، اتسمت بالرمزية والعفوية (قضاء العديد من عطله الصيفية بهاته المناطق)، الأمر الذي لقي استحسانا وصدى طيّباً من طرف سكان الريف. لا يختلف اثنان أن المجهودات الكبيرة التي قام بها الملك، ساهمت في تضميد جراح الماضي، وتأسيس لمرحلة جديدة على مستوى علاقة الدولة بهذه المناطق وساكنتها، وهو ما انعكس إيجاباً على تخطي الموروث الثقافي والتاريخي الذي تكرس وفق سياقات تحتاج إلى الفهم والاستيعاب. انفراج أو علاقة جديدة بدت تلوح في الأفق لم تعمر طويلاً، نتيجة سوء الفهم الذي ظهر بفعل بروز وتنامي موجة الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي، سرعان ما تطورت إلى أشكالا أثارت توجس السلطة، واتخذت منحى كان من الممكن تفادي نتائجه. وارتباطا بالواقع الحالي، فالمقاربة التي اعتمدت في معالجة هدا الوضع أفضت إلى ظهور قراءات مختلفة حول تدبير هذا الملف، وضريبته الحقوقية والسياسية، حيث يرى الفريق الأول أن القضاء قال كلمته في هذا الملف، وحسم الأمر وأن أي تراجع قد يمس هيبة الدولة ومؤسساتها. أما الفريق الثاني، فيرى أن الدولة مطالبة بإعادة النظر في التعاطي مع هذا الملف من خلال بعض المداخل السياسية، كإصدار عفو من طرف ملك البلاد على المعتقلين الشباب وإغلاق قوس التوتر وتجنيب البلاد مشاكل واضطرابات ليست في حاجة إليها. بين الفريقين، من المؤكد والمرجح أن هناك تباينا واختلافا عميقا لا يسعف ولا يساعد على تجاوز الوضعية الراهنة، لكن الكل ينتظر فتح نقاش حقيقي يؤسس لمصالحة جديدة بين المركز والريف، ربما، من بوادر أو مؤشرات الانفراج، هو العفو الملكي الذي تم خلال عيد الفطر الأخير عن بعض معتقلي الحسيمة، مما فتح الباب حول إمكانية الإعفاء عن الباقين، على غرار معتقلي جرادة.