قال المفكر عبد ا العروي، في حوار صحافي، يعرف نفسه: «أنا روائي بالميول، وفيلسوف بالاستعداد، ومؤرخ بالضرورة». يعكس هذا التصريح موسوعية الرجل في المعرفة والكتابة. لكن قراءة أعماله الأدبية والفكرية تبرز ريادته في مجالات شتى: البحث التاريخي، والتأمل النظري، والإبداع الأدبي، والترجمة، الخ. في هذه الحوارات، نقدم هذا الفكر المتعدد، من خلال أسئلة نطرحها على كتاب ونقاد وباحثين، في محاولة لتفكيك منظوره الفكري المركب. في نظرك، لماذا لم تستطع التجربة الروائية العربية أن تتخلص من الكتابة عن الذات؟ ولماذا تبدو معظم الروايات أشبه بالسير الذاتية؟ تتجلى الذاتية في كل الروايات بدرجات متفاوتة. وسبق لفلوبير أن صرح بأن “سيدتي بوفاري هي أنا”. ووسم فليب لوجون استيحاء التجربة الذاتية في الرواية بالفضاء السيرذاتي الذي يقوم على “الميثاق الاستيهامي”. ناصب بعض الروائيين العداء للسيرة الذاتية لسطحيتها وسذاجتها وحَرجِها من انتهاك “مناطق الحساسية”، ومن ضمنهم أندريه جيد وفرنسوا تيبودي وجون بول سارتر وبليز باسكال صاحب القولة الشهيرة “الأنا بغيضة”. فهم يعتبرون التخييل لا يكذب لأنه يفتح أبوابا سرية للكشف عن الحقائق المضمرة والاستيهامات المغفية في منأى عن الرقابة والوصاية. وهكذا يتضح أن الرواية قد تمتح وقائعها من السجل السيرذاتي وتغلفها بهالة تخييلية. وبالمقابل يمكن للسيرة الذاتية أن تختلق أحداثا يصعب التحقق من صدقيتها. ومن ثمة بقى الحد قائما منذ شعرية أرسطو بين ملفوظات الواقع (وفي مقدمتها السيرة الذاتية) وملفوظات التخييل (وفي مقدمتها الرواية)، إلى أن خاضت الشعرية الجديدة في الحالات الوسطى التي يتداخل فيها الواقعي والخيالي. ومن ضمنها السيرة الذاتية التخييلية، والرواية السيرذاتية، والتخييل الذاتي Autofiction، والحكي الذاتي Autonarration. ويعتبر التخييل الذاتي من أكثر المناطق التباسا لطابعها المُهجَّن. وبمقتضاها يسند المؤلف إلى شخصية خيالية تحمل اسمه مهمة استرجاع حياته الشخصية (على نحو “الابن/ الخيوط” لسرج دبروفسكي، و”الطفلة الخالدة” لفليب فوريست، و”ساحرات الجمهورية” لكلوي دولوم، و”من قال أنا” لعبدالقادر الشاوي، و”مثل صيف لن يتكرر” لمحمد برادة). أغتنم هذا الحوار لبيان لماذا أترجم عنوان رواية سيرج دبروفسكي (Fils)- التي تعتبر فتحا في مجال التخييل الذاتي- بكلمتين مختلفتين (الخيوط والابن). تحتمل الكلمة الفرنسية الجناس (تشابه اللفظين في النطق واختلافهما في المعنى). فهي تفيد من جهة “الخيوط”: خيوط الكلمات والمحكيات، وهو ما أشار إليه سيرج دبروفسكي في بداية مؤلفه، ويعني بها أيضا الابن: يوهمنا في كثير من الصفحات أنه قضى أياما مع نساء بفندق على شاطئ نورمندي.. وفي الأخير يثبت أن كان مع أمه.. وكتب هذا المؤلف تحت صدمة فراقها، وهو ما جعله يخضع لجلسات التحليل النفسي تحت إشراف المحلل النفسي الأمريكي أكيريت (Akeret). وكان من ثمراتها هذا المؤلُّف الضخم (الوظيفة العلاجية للكتابة)، الذي ظل مرقونا في 1637 صفحة وعنوانه: “الوحش” إلى أن قامت الباحثة إزابيل كريل بنشره عام 2014 بالعنوان نفسه. أما المؤلف “الابن/ الخيوط”، فهو نسخة من المؤلف الأصلي بعد أن شذبه سيرج دبروفسكي حتى يكون قابلا للنشر في 538 صفحة (منشورات غاليمار1977). وما يعلل تسمية العنوان بالوحش أن السارد يكرر مقطعا باللغة الانجليزية وبحرف مائلة لنقل ما عاينه في الفندق صحبة المرأة التي كانت تلازمه.. رأى مخلوقا غريبا يخرج من البحر ويزحف على الرمل.. له رأس التمساح وجسد السلحفاة.. كل النقاد الذين حللوا هذا المقطع الحكائي ربطوا المشهد بخصاء المؤلِّف (عقد الخِصاء)، وميوله الجنسية المثلية، وتعلقه بأمه (عقدة أوديب). وبالمناسبة، إنني على وشك الفراغ من كتاب يحفر لأول مرة – في العالم العربي- فيما يقع بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل من تجاذبات ومفارقات، قد تكون أحيانا “ثمرة منافرة عجيبة”. وبتبدل معايير القراءة (عقد القراءة) تتبادل الأعمال المواقع فيما بينها. وهذا ما يجعل عملا واحدا يشغل سجلات أجناسية متعددة مع مرور الوقت. اعتبرت مطولة مارسيل بروست “بحثا عن الزمن الضائع” رواية، ثم صنفت في خانة السيرة الذاتية التخييلية، ثم أدرجت ضمن التخييل الذاتي. وحده القارئ الساذج الذي يضع ما يقرأه من روايات أو ما يشاهده من أفلام في موقع ثابت، مما يجعله يتعامل مع الرواية بأنها سيرة ذاتية والعكس صحيح. وهذا ما نعاين جزءا منه من إجهاش متفرجين بالبكاء اعتقادا منهم بأن البطل المنتحر هو شخصية حقيقية من لحم ودم. في حين أن القارئ النبيه يستعمل– كما يقول أرنو شميت- المؤشر (curseur) أو البندول لوضع ما يقرأه في السجل الواقعي أو السجل التخييلي أو بيْن بيْن بالاعتماد على خلفياته المعرفية. ومع ذلك، قد يقع ضحية ما يقرأ. ونورد في هذا الصدد مثالين. * قام أولفكانك هيلدخيمر (Wolfgang Hildesheimer) بتصحيح الاعتقاد الذي رسخ عند النقاد والقراء على حد سواء، ومفاده أن عمله “السيد أندريو ماربو” ليس سيرة، وإنما هو رواية”، بدعوى أن المترجم له مجرد شخصية خيالية وأن الاستشهاد بكتاباته وتوثيقها، إنما هو ضرب من الخيال، ومن الصناعة الروائية. * يشير جبرا إبراهيم جبرا- في بعض الهوامش المثبتة في سيرته الذاتية “البئر الأولى”- إلى أن هذا الحدث أو ذاك سبق له أن توسع فيه في إحدى رواياته أو في مجموعته القصصية “عرق وبدايات من حرف الياء”. وهكذا يحفز القارئ على مراجعة طريقة قراءته لبعض الأحداث التي تعامل معها بأنها ضرب من الخيال. فالزلزال المرعب الذي ضرب فلسطين عام 1927، ووصف آثاره في الفصل السادس من روايته “البحث عن وليد مسعود” هو تجربة حقيقية. وهذا ما يحفز القارئ على إعادة تصنيف العمل ضمن “الفضاء السيرذاتي” مادام يسرد وقائع عاشها السارد وعاين آثارها على نفسية مُجايليه. أبديت هذه الملاحظات تطلعا للخروج من العبارات المسكوكة والرائجة التي تلوكها الألسن لبساطتها وعموميتها، في حين أنها لا تنظر إلى عمق المشكل لبيان كيف تتلون الذاتية في صور متعددة، وكيف يتشابك الحقيقي والتخييلي بنسب ودرجات مختلفة.