قال المفكر عبد ا العروي، في حوار صحافي، يعرف نفسه: «أنا روائي بالميول، وفيلسوف بالاستعداد، ومؤرخ بالضرورة». يعكس هذا التصريح موسوعية الرجل في المعرفة والكتابة. لكن قراءة أعماله الأدبية والفكرية تبرز ريادته في مجالات شتى: البحث التاريخي، والتأمل النظري، والإبداع الأدبي، والترجمة، الخ. في هذه الحوارات، نقدم هذا الفكر المتعدد، من خلال أسئلة نطرحها على كتاب ونقاد وباحثين، في محاولة لتفكيك منظوره الفكري المركب. ما صحة القول إن العروي ضمّن رواياته ما لم يستطع الإفصاح عنه في أعماله الفكرية؟ وما حدود حضور الذات في أعماله الأدبية؟ أكد عبد لله العروي- في كثير من المناسبات- أنه كان يأمل في ميعة الشباب أن يصبح روائيا. لكن الظروف حفزته على كتابة التاريخ وممارسة النقد الإيديولوجي. كان الدافع الأصلي هو كتابة الرواية، وهو ما سار على نهجه ودربه، فاستقام أمره بإصدار إلى حد الآن ست روايات (الغربة، واليتيم، وأوراق، والفريق، وغيلة، والآفة)، فضلا عن يومياته الخاصة ومذكراته. ودائما يطرح على نفسه، السؤال عينه. لماذا يميل إلى كتابة الرواية؟ وما القيمة التي يمكن أن تضيفها إلى مساره الفكري؟ يجيب العروي (في الحوار الذي أجراه معه ثلة من المثقفين المغاربة “عبد لله العروي: الأفق الروائي”، مجلة “الكرمل” العدد 1984) أن هناك مجالات تستدعي العقل لإضاءة جوانبها المظلمة، والحرص على فهم أبعادها وامتداداتها، ومن جملتها الفلسفة والتاريخ والنقد. في حين هناك مجالات أخرى- وفي مقدمتها الرواية- تسعف على فتح أبواب سرية للنفاذ أكثر إلى ما تراكم في اللاشعور منذ مراتع الصبا، وما تستضره السريرة من أحلام محبطة وتطلعات هاربة. هناك فريق من النقاد يصدر أحكاما جزافية على التجربة الروائية لعبد لله العروي مدعيا أنها نسخة طبق الأصل من طروحاته النظرية. وهو- بهذا الصنيع- يفرغ رواياته من خصوصياتها التخييلية، ومطامحها التجريبية، وبرامجها السردية والاستهوائية. وهناك الفريق الذي أنتسب إليه، وهو- في نظري- أقوى حجة من مزاعم الفريق الأول مستندا إلى كثير من التجارب العالمية التي وفق أصحابها بين التنظير والإبداع الروائي، ومبينا كيف يتقاطع أحيانا البعدان المرجعي بحمولته الفكرية والثقافية والتخييلي بمراهنته على اختلاق أحداث وتصنعها، ومبرزا أهمية التخييل الروائي بحثا عن التلاؤم بين أفعال الروح ومطالبها واسترجاع الكلية الخفية (تلاحم الذات والعالم)، وسعيا إلى اقتراح بدائل ممكنة للعيش الكريم. سأعطي بعض الأمثلة لبيان كيف ينفصل العروي التاريخاني عن العروي الروائي، وإن كانا في العمق يتحالفان ويتكاملان في استخدام كل الوسائل الممكنة لفهم الكائن البشري بصفته قارة مجهولة أو جبلا جليدية ما خفي منه أعظم. يميل العروي نظريا إلى النموذجية الألمانية حرصا على حرق المراحل، واستبدال فكر طبقة بطبقة أخرى تطلعا لتدارك التأخر التاريخي واللحاق بالدول الراقية والمتقدمة. في حين ينفتح روائيا على نموذجية إيطاليا ويرى- على لسان شخصية سرحان الخالية- أنها تتوافق مع طبعنا وتطبعنا (الخفة والطرب)، إلى درجة قد نعتبر أنفسنا- من كثرة الإفراط- طليان أكثر من الطليان، ويند عن نموذجية الألمان لصرامتهم في الحياة وجلف طبعهم وغلظه. وهي صفة لا تناسب العرب الذين لم يكونوا أجلافا حتى في جاهليتهم، ومن بين النماذج التي يميل إليها إبداعيا، نموذجية الأمريكان لإيمانهم بالضمير المهني وتشبثهم بالإرادة، فهم يعملون ويجدون في مختلف مرافق الحياة، كما لو كانت كاميرا خفية تراقبهم.. نظريا، يرجع عبد لله العروي سبب تأخر المغرب إلى عوامل تاريخية وثقافية وتربوية (ما شرحه بعمق في كتابيْه “العرب والفكري التاريخي”، و”ثقافتنا في ضوء التاريخ”). ويتوقف عند الجانب النفسي في رواياته لفهم أسباب إخفاقنا وتأخرنا. لأنها من الوسائل التعبيرية التي تمكن من التوغل في نفسية الإنسان وسريرته وعقله الباطني. عندما أخفق الفريق الجديد (في رواية الفريق) في جلب الانتصارات ورفع رأس بلدة الصديقية عاليا تضاربت الآراء حول الأسباب التي جعلت اللاعبين في مباراة حاسمة تخونهم البركة، وتثاقل أرجلهم، وتعاكسهم عقارب الساعة بتوقفها عن الحركة. أهي عدم فاعلية التمائم التي أعدها المدرب موسى بودميعة لطرد نحس الهزائم المتتالية؟ أهو الإعداد البدني والفكري الصوفي الذي لا يناسب مجريات اللعب ومكره؟ أهو التكوين النظري الذي لا يناسب عقلية اللاعبين ومستواهم الفكري واستعداداتهم النفسية؟ قد تكون كل هذه العوامل النفسية دفعة واحدة، وهو ما يعمق الهوة بين الأماني والأفعال، وما يؤدي إلى حدوث احتجاجات شعبية بين الفينة والأخرى، وما يكشف عن عجز الجماعات الوسيطية في تأطير المواطنين، وما يسعف- بالمقابل- على تنامي المد التقليداني والمحافظ معتمدا على تعاقدات ووساطات وولاءات متقادمة تعيد إنتاج البنيات التقليدية، وتحول دون استنبات بذور الحداثة، ومجافاتها بمنطق أهل الكهف. سبق لي في كتابي “الحقيقة الملتبسة” وفي كتاب جماعي “عبد لله العروي الحداثة وأسئلة التاريخ” أن خصصت حيزا لتجليات الذاتية في أعمال عبد لله العروي (الذات وظلالها). عبر عبد لله العروي عن ذاتيته بطريقة مباشرة في سيرته الذاتية المتفجرة من الداخل (أوراق)، وفي يومياته (خواطر الصباح من ثلاثة أجزاء)، وفي مذكراته (المغرب والحسن الثاني) وفي أعماله الروائية. اتفق مع صديقه شعيب على إنقاذ الأوراق التي خلفها إدريس بعد وفاته، فقاما بجمعها وترتيبها والتناظر حول محتوياتها بالنظر إلى خلفياتهما الثقافية (الليبرالية والسلفية). لم يمنع تبئير المؤلف اهتمامه على المسار الفكري للمترجم له (إدريس) من تسليط الأضواء على سيرته الذاتية الفكرية وعلى وصف الجيل الثقافي لمجايليه بحكم أنهما عاشا التجارب نفسها تقريبا، وترافقا طيلة مشوارهما الدراسي والجامعي. لم يكن يود في مذكراته التركيز على حياة الملك الراحل الحسن الثاني، وإنما بيان المغرب الذي خلفه بعد موته، واستجلاء طريقته في تدبير الشأن العام. ركز العروي على اللقاءات القليلة التي جمعته بجلالة الملك حسن الثاني، وعلى المهمات التي أسندها إليه وقبلها للوازع الوطني. وإن كان عبد لله العروي يبئر سرده على شخصيات عمومية من معدن الحسن الثاني، ومن عيار عبد لله إبراهيم والمهدي بنبركة وعبدالرحيم بوعبيد، فهو قد خصص حيزا للمسار الذاتي (المسار المهني، والمسار السياسي، والمسار الفكري). تستغرق اليوميات اثنتي وثلاثين سنة مستوعبة أهم الوقائع التي عرفتها هذه المدة الزمنية (8 يونيو 1967-24 يوليوز 1999) على المستويين الوطني والدولي. ومن خلالها يتضح أن عبد لله العروي كان واعيا بالمشروع الذاتي ومواظبا عليه، إذ خصص له دفترا يدون فيه ما يخطر بباله وما يقع له في إبانه. لم تستوعب يومياته إلا الوقائع التي عاشها بعد عام 1967. وما حدث من قبل يلمح إليه في يومياته أو يضمنه في أعماله الروائية. وتتشخص ذاتيته بطرق مختلفة وملتوية في رواياته. إن أب إدريس في اليتيم هو الشخص نفسه الذي يتحدث عنه العروي في يومياته (ج1، ص77)، وما استحضره سرحان في الفريق، هو بالضبط ما اعترى العروي عندما زار متحف جنيف وأثبته في يوميته بتاريخ 24 دجنبر 1981. ما كتبه إدريس عن طلبة المغرب بباريس ينطبق على الشخص الذي نادى على العروي من نافذة مصلحة السكنى يوم الجمعة 17 أكتوبر 1975 (أوراق مقطع 22، وخواطر الصباح ج2، ص82). يسعفنا الفضاء السيرذاتي (تضمن الرواية عينات واستيحاءات سيرذاتية) على استيعاب جوانب معينة من حياة المؤلف، والحصول على شهادات تاريخية عن أحداث بعينها. وهي بذلك تقدم لنا وثائق شخصية يمكن أن يستأنس بها في تبديد الغموض، الذي اعترى فترات تاريخية أو فك الحصار على شخصيات معينة.