نزّلت مؤخرا تطبيق “تيك توك” الصيني على هاتفي. وجدت نفسي أمام جيل يعبر عن نفسه بوجه مكشوف، دون قيود، بلا عقد، وأهم من ذلك، يستوي فيه الذكور والإناث في كشف الذات للعالم. التعبير عن الذات بالفيديو يتخذ شكلا محيّرا. فالذات لا تنطق إلا بصوت غيرها. “تيك توك” تطبيق للموسيقى والمقاطع الساخرة، يُمّكن المستعمل من تقنيات للمونتاج تسهل عليه “التقليد”. كيف؟ يمكنك مثلا أن تأخذ كلام كبّور من إحدى حلقات “الكوبل” وتضعه على لسانك. الصورة صورتك والبيت بيتك وتلك صديقتك والصوت لكبّور والشعيبية. الصوت مستعار غالبا. وقد “تسرق” نغما من موسيقى راب أو أغنية شعبية، وترقص عليه أو ترقصان عليه أو ترقصون عليه في درج العمارة أو فوق طاولات وزارة التربية الوطنية. وقد توجه خطابا بصوت زعيم عربي مفدّى إلى الشعب من فوق صندوق خشبي متهالك وسط زريبة للماشية. أليس الأمر مسليّا؟ من هذا الجيل الذي أتحدث عنه؟ أغلب الشركات المختصة في تحليل ديموغرافيا التطبيقات تقول إن معظم زبناء “تيك توك” من المراهقين. وبذلك أعتقد أني أتحدث عمّا يسمى ب”جيل الأنترنيت”، وهو ذاك الجيل الذي رأى النور ابتداء من عام 2001 فما بعده، (وهناك من ينزل به إلى سنة 1995 فما بعدها). ويرمز إليه بالحرف ((Z، ويأتي بعد “جيل الألفية” (Y)، وهو الجيل الذي أنتمي إليه، والذي يعد ثاني أكبر مستعمل للتطبيق. (وللعلم فقط، فجيل الألفية ليس الجيل الذي رأى النور في الألفية الجديدة، وإنما الجيل الذي بلغ سن المراهقة أو الشباب في مطلعها). لا أعلم إن كان جيل يغني ويرقص ويحكي النوادر للعالم من سرير النوم والمطبخ والقسم والمصعد والسيارة يعبأ لقضية “الحياة الخاصة”. لا أعلم إن كان جيل يستهلك الفيديوهات والصور بشكل فظيع وينتجها بشكل مهول يهتم لأمر القراءة والكتابة. “تيك توك” تجاوز مؤخرا سقف المليار مستعمل، وتطبيقات أخرى قريبة في أسلوبها منه تحصد ملايين المشتركين عبر العالم. مثل باقي التطبيقات الهاتفية، يثير “تيك توك” انشغالات ومخاوف منها خطر الاستغلال الجنسي والتغرير بالقاصرين والتحريض على سلوكيات خطِرة، لكن لا أرمي في هذا المقال إلى الوقوف عند هذه الانشغالات. أود إثارة قضية أكبر، انشغال رئيس، انقلاب كبير في مقاربة الذات والعالم مفاده أن مستقبل التواصل الاجتماعي سيكون للفيديو، بشكل كاسح ومخيف. في عام 2016 سألت مجلة “فورتشن” نيكولا مينديلسون، نائبة رئيس فايسبوك لمنطقة أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا عن توجه الشبكة في السنوات الخمس المقبلة. أجابت مينديلسون: “سيصير فايسبوك تطبيقا هاتفيا بدون شك، وفي الغالب سيصير محتواه بالكامل عبارة عن فيديوهات”. سألتها صحافية المجلة “حين تقولين بالكامل عبارة عن فيديوهات، هل يعني ذلك أنه لن يصير بإمكاننا تحرير النصوص والكتابة على المنصة؟؟”. وبالفعل، لم تكن مينديلسون تستعمل لفظ ب”الكامل” على سبيل المجاز، كانت تعني ما تقول. ردت على الصحافية “النصوص في تراجع والصور ومقاطع الفيديو في ارتفاع مضطرد، وإذا كنت لأراهن على ما سيكون عليه الأمر، فسأقول إن فايسبوك سيصير فيديوهات في فيديوهات في فيديوهات”. تفصلنا سنتان على معرفة مصير هذه النبوءة، لكن مؤشرات التطبيقات الهاتفية الخاصة بالفيديوهات ونسبة إنتاجها وتقاسمها واستهلاكها على الشبكات الاجتماعية تجعلها نبوءة وشيكة الوقوع. وهذا أمر غريب. غريب على من ألف رسم العالم بالكلمات. حين أشعر برغبة ملحة في التعبير عن ذاتي أو سرد تجربة، أكتب. أفكر أني حين سأريد التعبير لامرأة عن كل الحب الذي أكنه لها في داخلي، سأكتب لها قصيدة. ربما أجعلها بطلة لقصة قصيرة جدا، وقد أرسلها ل”دير القمر” على أجنحة الخيال، إلى تلك القرية اللبنانية العريقة ذات الاسم الآسر بعدما أحوّلها إلى ساحة أدبية لقصة حب مجنونة. وهذا كلام حالم من شاب سيرسله مارك ومن معه من أصدقاء يملؤون فايسبوك بالكلمات قريبا إلى المتحف. الأسبوع المقبل ننظر في انعكاسات هذا الهوس الذي سيحوّلنا إلى كائنات أثرية، هوس جيل يرفع شعارا: “لا أكون شيئا إذا لم يراني الآخَر”..