دأب العسكريون الذين حكموا أغلب بلدان المنطقة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة خلال العقود الستة الأخيرة، وفق نهج يقتضي جعل سلطة القوة هي القاعدة، على قلب البوصلة الأخلاقية لشعوب المنطقة، مستفيدين من ضعف الفكر السياسي للنخب المحلية ومن تسامح الأنظمة الغربية مع تسلطهم، مقابل أن يظمنوا ولاءهم لمصالح الحكومات الغربية، واضعين شعوب المنطقة تحت مقصلة مزاجهم المتقلب وسلطة عائلاتهم الجشعة. طوال الفترة الفاصلة بين صعود العسكريات إلى الحكم، وتحكمها عن طريق قوة السلاح برقاب المواطنين البسطاء والفقراء وإسكات النخب سجنا أو قتلا أو تهجيرا، وفترة ثورات سنة 2011، حيث مالت الكفة لأول مرة بشكل ملحوظ إلى “شعوب الميادين”، لم تحدث إلا ثغرات بسيطة في جدار الاستبداد السياسي في المنطقة. وطوال تلك الفترة الطويلة نشأت أساطير حول هذه الشعوب، ومنها الأسطورة التي تدعي تعارض التداول السلمي للسلطة وثقافتها، وأساطير أخرى بين الزمن هشاشتها وروحها التسلطية. في الأسبوع الماضي أضاف عسكري آخر أسطورة سياسية أخرى قديمة/جديدة، مفادها أن “أخلاقنا ليست هي أخلاقكم”، مخاطبا جماعة من الأوروبيين حجوا إلى عاصمة من عواصم الفقر والخراب جنوب المتوسط لحضور اجتماع من الاجتماعات الروتينية، التي تمولها البيروقراطية الأوروبية لتبييض وجه سلطويات جنوب المتوسط وشرقه. لا أحد سأل هذا العسكري عمن كان يتحدث بالضبط، هل عن أخلاقه هو، أم عن أخلاق من يشبهونه ممن مروا من الحكم هنا؟ ولكن هذا لا يكاد يهم في شيء. لا يستطيع العسكريون هنا التقدم لأي انتخابات حرة في البلدان التي يحكمونها، ولو ضمن الناس في أي بلد من هاته البلدان حرية التعبير والتحرك ضد السلطة، لما كان مصير أغلبهم أقل دراماتيكية من مصير من سبقوهم إلى الحكم العسكري في المنطقة، وهم يعرفون هذا جيدا لدرجة أنهم يفصلون الدساتير على هواهم، ويعيدون تصميمها كي يضمنوا البقاء خالدين في السلطة، ويودون لو سحروا عقول الناس بمشاريع ضخمة لا نفع اقتصادي من ورائها إلا ابتغاء عظمة لن تأتي ولو أنفقوا كل خزائن الخليج عليها لمائة عام مقبلة. إن محاولة هؤلاء العسكريين تأسيس قواعد أخلاقية دموية، أو تصور منظور أخلاقي لشعوب المنطقة تناسب منظورهم الدموي للحكم، دليل على مدى يأسهم وفشل خططهم في فرض صمت القبور على شعوب المنطقة. فالفاشية تبدأ بانحدار أخلاقي وتنتهي بإعادة “حيونة” أخلاق الأفراد لما تجعلهم أكثر افتراسا وأكثر عنفا وأقل اكتراثا لأي قواعد إنسانية، ويستقر لها الأمر في نهاية المطاف، إذا لا مناص من تنصيب “ليفياتان” مفترس، حسب تصورات الفيلسوف السياسي الإنجليزي، توماس هوبز، لحكم جماعة من المفترسين كما يتصورون ويشرعنون. لكن الطبيعة البشرية نفسها، طال الزمن أم قصر، تصحح هذا الخطأ المتعمد في فهم قانونها وتعيد اصطفاء نخبة من الأخيار والمتنورين يجعلون المجتمع يرتقي لأعلى ولا يغرق في المنحدرات، كما تخطط لذلك الديكتاتوريات العسكرية الدموية. في الواقع، لقد استغل بعض العساكر الفرصة ليعيدوا على مسامع الغربيين (وخصوصا الأوروبيين منهم) تصورهم الاستعماري القديم، للحاكم الشرقي ورعيته. لكن لا يبدو أن ذلك الزمن سيستمر أو يعود. وعلى كليهما، ربما، تقبل الواقع الجديد، فلم يعد للحكومات الأوروبية من حظ لاستغلال شعوب جنوب المتوسط وحتى أبعد من المتوسط جنوبا، كما كان عليه الأمر قبل 150 سنة، أو 100 سنة أو حتى 20 سنة، إذ أن تاريخا جديدا يُكتب كل يوم، ومضمونه أن التحرر من سلطتيهما (الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي) أصبح أولوية للأفراد في هذه البلدان التي غلبت على أمرها لزمن طويل.