في أول خروج إعلامي له من هذا الحجم منذ تعيينه رئيسا لمجلس المنافسة، وفي ظل استمرار الجدل الذي خلّفه أول الآراء الصادرة عن هذه المؤسسة الدستورية، والقاضي برفض طلب الحكومة القيام بتسقيف أسعار المحروقات، يقدّم إدريس الكراوي روايته الكاملة عما جرى، ويرد على الاتهامات التي صدرت عن الحكومة بكون المجلس سيَّس وظيفته. ويؤكد الكراوي في هذا الحوار أن المجلس في حلته الجديدة سيعتمد على اليقظة الاقتصادية والتنافسية والقانونية بهدف التمكن من تتبع بنيات الأسواق، وسلوك الفاعلين في القطاعات المنتجة للاقتصاد الوطني، «مع استخدام آليات التدخل التي يتيحها له القانون، بما في ذلك الإجراءات الزجرية، لحماية المستهلك والحفاظ على تنافسية الاقتصاد، وتساوي الفرص أمام الفعل الاقتصادي». فاجأ مجلسكم الرأي العام حين جعل أول قراراته بعد تنصيبه رفض طلب الحكومة تسقيف أسعار المحروقات، ألا تخشون إعطاء إشارة سلبية للمجتمع؟ اسمحوا لي قبل أن أجيب عن سؤالكم أن أخبركم بأن رأي مجلس المنافسة، بخصوص قرار الحكومة الرامي إلى تقنين أسعار المحروقات السائلة، دُرس بصفة مفصلة من لدن مقرري المجلس الذين يقومون بتحقيقات مستقلة مدققة للجوانب القانونية والاقتصادية والتنافسية، في أبعادها المرتبطة بحماية القدرة الشرائية للمستهلك، وبتنافسية القطاعات المنتجة للاقتصاد الوطني. كما أن المجلس عقد عدة جلسات إنصات مع كافة المتدخلين في قطاع المحروقات، من سلطات حكومية مختصة، وهيئات مهنية، ومركزيات نقابية، وجمعيات مدنية لحماية المستهلك، وكذا المجلس الأعلى للحسابات، واستند أيضا إلى دراسات مقارنة همت العديد من التجارب الدولية، مكنت أعضاءه الاثني عشر من الإحاطة بالجوانب الجوهرية للإحالة المعروضة على أنظاره، واضعين صوب أعينهم مدى ملاءمة مشروع القرار الحكومي مع قانون حرية الأسعار والمنافسة من جهة، وانعكاسات تقنين أسعار المحروقات السائلة على المجتمع والاقتصاد. وبناء على هذا التحضير المسبق، تداول أعضاء المجلس طلب الرأي المقدم من لدن الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالشؤون العامة والحكامة. فمجلس المنافسة لم يرفض طلب الحكومة بشأن مشروع تسقيف أسعار وهوامش الربح، بل اعتبر هذا التدبير غير كاف وحده لحماية القدرة الشرائية للمستهلك، وغير مجدٍ من الناحية الاقتصادية والتنافسية، فضلا عن كونه لا يستوفي الشروط القانونية الواردة في المادة الرابعة من قانون حرية الأسعار والمنافسة، الذي يحدد الشروط المتدخلة في ارتفاع أو انخفاض فاحش للأسعار تعلله ظروف استثنائية، أو كارثية عامة، أو وضعية غير عادية بشكل واضح في السوق بقطاع معين. وبناء عليه، فإن المجلس حرص، من خلال رأيه هذا، إعطاء إشارة قوية للمجتمع مفادها أن مشروع قرار التسقيف ظرفي، ولا يجيب عن الاختلالات ذات الطبيعة الهيكلية التي يعرفها قطاع المحروقات. فهذا القطاع يحتاج، حسب رأي مجلس المنافسة، إلى إصلاح بنيوي، عميق وشامل. وقد حدد المجلس مداخله في أربع رافعات رئيسة شكلت جوهر التوصيات التي اقترحها على أنظار الحكومة. معلوم أن التسقيف يكون لفترة محدودة، ألم يكن من الممكن العمل به في مرحلة انتقالية، في انتظار تقديم المجلس الضمانات الكافية لطمأنة المستهلك إلى أنه يحكم مراقبة السوق؟ صحيح أن تقنين أسعار المحروقات السائلة، في إطار المادة 4 من القانون، يحدد مدة تطبيقه في ستة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة، أي مدة أقصاها سنة، لذلك، اعتبر المجلس أن هذا التدبير لن يمكّن، خلال هذه المدة، من الحد من آثار تقلبات المواد الأولية على المستوى العالمي، وبالتالي، فإن أسعار البيع للعموم ستواصل تغيراتها الفجائية، بالرغم من اللجوء إلى تطبيق التسقيف. هذا، بالإضافة إلى أن هذا القرار ستكون له انعكاسات على المستوى الاقتصادي والتنافسي داخل سوق المحروقات، لأنه تدبير تمييزي لا يأخذ بعين الاعتبار حجم وبنية تكاليف الفاعلين في القطاع. كما أن هذا التدبير سيؤثر على الاستثمارات المبرمجة، فضلا عن أنه تدبير سبق تجريبه ما بين دجنبر 2014 ودجنبر 2015، ولم يفضِ إلى النتائج المرجوة، لأن الفاعلين في القطاع يطبقون عادة الأسعار القصوى، دون بذل أي مجهود لتخفيض الأثمنة، حيث يتحول السعر الأقصى تلقائيا إلى سعر أدنى. ومن ناحية أخرى، فإن قرار التسقيف يُبقي التساؤل مطروحا حول كيفية أجرأته في السوق، وما إذا كان سيأخذ بعين الاعتبار البنية الحقيقية للأسعار المطبقة من لدن الفاعلين، أم إنه سيطبق بشكل متساوٍ على الجميع. وفي هذه الحالة، فإن المستفيدين من هذا الإجراء سيكونون، بالضرورة، هم الفاعلون الكبار الذين سيكرسون هيمنتهم في سوق المحروقات، على حساب الفاعلين الصغار والمتوسطين الذين سيتضررون أكثر وستتفاقم هشاشتهم. المجلس كان في عهد رئيسه السابق قد أنجز دراسة حول سوق المحروقات، لمح حينها إلى أن خلاصاتها تنم عن وجود تواطؤ بين الموزعين، هل أخذتم ذلك بعين الاعتبار؟ لقد سبق للمجلس أن أنجز بالفعل خلال سنة 2011 دراسة حول إصلاح منظومة المقاصة، في شقها المتعلق بقطاعات السكر، وغاز البوتان، والمحروقات، ودقيق القمح اللين، وذلك بناء على طلب تقدم به رئيس الحكومة سنة 2010. وفي هذا الصدد، قدم المجلس مقترحات عملية لتجاوز الاختلالات التي تعانيها المنظومة، اعتمادا على تقييم بعض التجارب الدولية، مع اتخاذ تدابير مصاحبة تعتمد على التحفيز الجبائي، والتحويلات المباشرة، بغرض التخفيف من آثار ارتفاع الأسعار بفعل إعادة هيكلة صندوق المقاصة. وتجدر الإشارة، في هذا الإطار، إلى أن هذه الدراسة لم تعالج إشكالية تواطؤ الفاعلين في قطاع المحروقات لبناء اتفاقات غير معلنة، لأن الأسعار كانت آنذاك مقننة من لدن الإدارة. فهذا الجانب المهم هو الآن موضوع إحالة ينكب المجلس على التحقيق والبحث بشأنها، وسيتخذ التدابير المناسبة في هذا الباب بعد استكمال الإجراءات المسطرية، واستنفاد الآجال التي يحددها القانون. مقابل الطلب الحكومي، تلقيتم طلبا من نقابات تشكو هيمنة بعض الموزعين في سوق المحروقات، هل ستنظرون في هذه الشكايات؟ كما سبق وأن أشرت إلى ذلك، فإن مجلس المنافسة تلقى بالفعل إحالة من لدن إحدى المركزيات النقابية، وإحدى فدراليات مهنيي قطاع المحروقات، تفيد بوجود محتمل لتصرفات منافية للمنافسة في قطاع توزيع المحروقات. وفور إعادة تفعيل المجلس بعد تعيين رئيس وأمين عام جديدين، وبعد تنصيب أعضائه، وأدائهم القسم أمام محكمة الاستئناف بالرباط، وطبقا للمساطر المحددة بموجب القانون، جرى تعيين مقرر للتحقيق والبحث في الموضوع، كما جرى تنظيم جلسات للإنصات إلى كل الفاعلين في القطاع، حيث إن الدراسة هي الآن في مراحل متقدمة، وسيُبت في هذه الإحالة بمجرد الانتهاء من إجراءات التحقيق، وتداول أعضاء المجلس بهذا الشأن في إحدى جلساته العامة المقبلة. اتهمكم البعض بتسييس المجلس، والتدخل في تقييم أداء الحكومة. كيف تردون على ذلك؟ اسمحوا لي أن أذكركم بأن مجلس المنافسة هيئة دستورية مستقلة مكلفة، في إطار تنظيم منافسة حرة ومشروعة، بضمان الشفافية والإنصاف في العلاقات الاقتصادية. ولهذا الغرض، يتمتع المجلس بسلطة تقريرية في مجال محاربة الممارسات المنافية لقواعد المنافسة، ومراقبة عمليات التركيز الاقتصادي. كما يختص المجلس، أيضا، بإبداء رأيه بشأن طلبات الاستشارة الواردة عليه، وإنجاز دراسات حول المناخ العام للمنافسة قطاعيا ووطنيا. ويمكن أن يتخذ المجلس المبادرة للإدلاء برأيه حول كل مسألة متعلقة بالمنافسة، وتوجيه توصيات إلى الإدارة لتفعيل التدابير اللازمة لتحسين السير التنافسي للأسواق. ومن أجل الاضطلاع بكل هذه المهام المنصوص عليها في الدستور، وفي القوانين المنظمة للمنافسة، أود أن أؤكد لكم أن عمل المجلس ينبني على معايير ومساطر قانونية صارمة تضمن حياد واستقلالية المؤسسة، سواء تجاه عالم السياسة أو محيط الأعمال، وذلك بدءا من تشكيلة المجلس المكونة من 12 عضوا، بينهم قاضيان وخبراء اقتصاديون وقانونيون، ومختصون في مجالات الإنتاج والتوزيع والخدمات وحماية المستهلك، أدوا كلهم القسم قبل بدء ممارسة مهامهم. كما أن قرارات المجلس تخضع لطرق عمل تعتمد على الفصل التام بين مصالح البحث والتحقيق من جهة، والهيئة التداولية من جهة أخرى، المبنية آراؤها وقراراتها على قاعدة التسلح بالخبرة التقنية، والمعرفة العلمية، والبحث الميداني، والدراسات المقارنة. وفوق هذا وذاك، فلا يمكن أن يبدي المجلس رأيه في أي موضوع كان، وأن يصدر قراراته وينجز دراساته ويضع تقاريره دون التكلم عن جوهر المواضيع والإحالات التي يعالجها. وبطبيعة الحال، ولأن الآراء الواردة عنه تضع الأصبع على الاختلالات البنيوية في أبعادها التاريخية والمادية بحثا عن جذورها، فهو مطالب بالضرورة، في إحدى مراحل عمله، بأن يسائل السياسة المتبعة في قطاع معين في مرحلة معينة من أجرأتها وتنفيذها وإعمالها، وذلك لمعرفة جدواها ونجاعتها من خلال الوقوف عند نتائجها من الزاوية الاقتصادية والتنافسية، وفي ما يخص العدالة الاجتماعية. فما هي القيمة المضافة لمؤسسة دستورية، تعنى بالحكامة الاقتصادية الجيدة والمسؤولة، إن لم تكن آراؤها وقراراتها ودراساتها وتقاريرها مبنية على التحليل المعمق لجذور القضايا البنيوية التي تعالجها. عرف المغرب قبل أشهر حملة مقاطعة شعبية همت إحدى شركات توزيع المحروقات، كما كشف تقرير برلماني تحقيق بعض الشركات أرباحا غير مشروعة. ماذا سيقدم المجلس لكشف الحقيقة وطمأنة المجتمع؟ بهذا الخصوص، لم يتوصل المجلس، إلى حد الآن، بأي إحالة أو طلب رأي يتعلق بهذا الموضوع. لكن يمكنني أن أؤكد لكم، من الناحية المبدئية، أن حماية المستهلك والدفاع عن قدرته الشرائية هما هدفان في صلب اهتمامات مجلس المنافسة، وذلك من خلال الاختصاصات الموكلة إليه بموجب القانون، في ما يخص تحليل وضبط وضعية المنافسة في الأسواق، ومراقبة التصرفات المنافية لها، والممارسات التجارية غير المشروعة، وعمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار. وكونوا على يقين تام بأن المجلس في حلته الجديدة سيعتمد على اليقظة الاقتصادية والتنافسية والقانونية بهدف التمكن من تتبع بنيات الأسواق، وسلوك الفاعلين في القطاعات المنتجة للاقتصاد الوطني، مع استخدام آليات التدخل التي يتيحها له القانون، بما في ذلك الإجراءات الزجرية، لحماية المستهلك والحفاظ على تنافسية الاقتصاد، وتساوي الفرص أمام الفعل الاقتصادي، وذلك من أجل خلق مناخ تنافسي كفيل بتفجير الطاقات الخلاقة المبنية على مبادئ وقيم الاستحقاق والمخاطرة والابتكار داخل مجتمعنا واقتصادنا. أثار المرسوم الخاص بتعويضات أعضاء المجلس ردود فعل سلبية بسبب قيمتها المرتفعة. كيف تلقيتم هذا التفاعل؟ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي، أولا، توضيحا أساسيا يتمثل في أن مبالغ تعويضات أعضاء المجلس، التي جرى التحدث عنها، هي مبالغ خام تتجاوز بكثير قيمتها الصافية. فمنح تعويضات لفائدة أعضاء المجلس هو مبدأ منصوص عليه في المادة 5 من القانون رقم 20.13 المتعلق بمجلس المنافسة، والتي تشير إلى تخويل أعضاء المجلس تعويضات تحدد بنص تنظيمي. وانسجاما مع هذه المقتضيات القانونية، صادق بالفعل مجلس الحكومة، بتاريخ 14 فبراير 2019، على مرسوم يحدد مبلغ هذه التعويضات، سواء تعلق الأمر بنواب الرئيس، الذين يزاولون مهامهم بصفة دائمة داخل المجلس، أو الأعضاء المستشارين الذين يتقاضون تعويضات حسب مساهمتهم في اجتماعات وأشغال المجلس. فما هي حقيقة هذه التعويضات؟ الحقيقة هي أن نواب الرئيس الأربعة لا يتقاضون 60.000 درهم شهريا، كما تداولته بعض المنابر الإعلامية، بل 37.000 درهم تعويضا شهريا صافيا، علما أن هؤلاء النواب تخلوا عن مهنهم الأصلية تفاديا لوضعية التنافي، وضمنهم قاضيان، ومحامٍ، وخبير سوف يكتفون حصريا بهذه التعويضات. أما الأعضاء المستشارون الثمانية الآخرون، فسيتقاضون تعويضات عن الحضور والمشاركة في إنتاجات المجلس تحدد في مبلغ 12 ألف درهم تعويضا شهريا صافيا.