تفترض الكاتبة لطيفة لبصير، منذ الوهلة الأولى في كتابها الجديد “الجنس الملتبس: السيرة الذاتية النسائية النسائية”، أن هذا الجنس الأدبي في كتابات النساء العربيات يختلف عن كتابات الرجال. إذ يعود هذا الاختلاف إلى أسباب متعددة، يكمن بعضها في خوف المرأة، مما يولد قدرة هائلة على توظيف الاستعارة أثناء الكتابة، أو في رغبة المرأة الكاتبة في كسر هيمنة الرجل على كتابة السيرة، أو في نزوعها نحو كسر المنظومة التقليدية التي ظلت تعاني منها سنوات طويلة، إلخ. من هنا، يتبين التباس كتابة السيرة الذاتية، باعتباره إشكالية نظرية ونقدية تخترق مجمل صفحات الكتاب. ليس معنى الالتباس في نظر لطيفة لبصير الغموض أو الميل نحو التلميح أثناء البوح، بل يكتنف نوعا من الخطاب المزدوج أثناء تعبير الذات الأنثوية عن نفسها، مثلما يكتنف ازدواجيات أخرى أثناء الكتابة، مثل المزج بين ضمائر متعددة في الحكي، أو بين أساليب الكتابة القصصية والروائية في السيرة الذاتية أو المحكي الذاتي. إذ تبين الكاتبة أن هذا الالتباس قائم في كتابة الرجال، لكنه يزداد تعقيدا أحيانا، أو تكثيفا أحيانا أخرى، بل غموضا في أحيان ثالثة، في كتابة النساء. ومن سمات هذا الالتباس في كتابة السيرة الذاتية عند المرأة الكاتبة، كما تكشفها الكاتبة منذ مقدمة الكتاب، “الانتقال من الميثاق إلى التخييل الذاتي، واعتبار هذا الأخير حقيقة من حقائق الكاتب”، و”الانتقال من كتابة الواقع، واعتماد المباشرة في السرد إلى أساليب متعددة، تضمر عدة مراتب في الحكي والقول والتعبير”. كما يتميز هذا الالتباس ب”الانتقال من المراهنة على الماضي إلى المراهنة على المستقبل، وبذلك تتحول السيرة الذاتية من نص يضمر التلاشي والنهاية، إلى نص يعلن البداية، ويراهن على تحويل الذات القارئة”. انطلاقا من هذه السمات، يكتسي افتراض الكاتبة لطيفة لبصير وجود اختلاف في كتابة السيرة الذاتية بين الرجل والمرأة أهميته النظرية والنقدية. واستجابة لرغبة كشف هذه الأهمية، بتجلياتها وتمظهراتها المختلفة، تتوقف لبصير، لتدرس حالات تبين طرائق كتابة السيرة الذاتية وتعكس انشغالاتها وهواجسها المتعددة والمختلفة في آن واحد. من هذه الحالات تبرز أساسا ثلاثية كاتبة المصرية المعروفة نوال السعداوي، وسيرتي الشاعرة الفلسطينية الشهيرة فدوى طوقان، وسيرة الكاتبة والأديبة الكويتية ليلى العثمان، وسيرة الكاتبة المغربية ربيعة السالمي، والكاتبة والمناضلة المغربية فاطنة البيه، بالإضافة إلى الروائية اللبنانية هدى بركات والقاصة المغربية الراحلة مليكة مستظرف. وهذا لا يعني أنها لم تدرس السيرة الذاتية كما كتبها الرجال، بل انكبت على البحث في حضور المرأة في أعمال السير-ذاتية، منها على سبيل المثال “مثل صيف لن يتكرر” لمحمد برادة، و”سيرتا” سليم بركات، و”عالم بلا خرائط” لجبرا إبراهيم جبرا وعبدالرحمان منيف، و”يوميات سراب عفاف” لجبرا إبراهيم جبرا، و”كان وأخواتها” لعبدالقادر الشاوي، و”الخبز الحافي” لمحمد شكري، فضلا عن ثلاث روايات للروائي غالب هلسا هي: “ثلاثة وجوه لبغداد” و”الروائيون” و”سلطانة”. وفي دراساتها لهذه الحالات، تفترض الكاتبة ثلاثة افتراضات أساسية: ينص أولها على أن “النص السير-ذاتي نسيج يمزج بين الوعي واللاوعي”. أما الافتراض الثاني، فيقول إن “النص السير-ذاتي لم يعد يحيل على الحياة الواقعية للمؤلف، بل أصبح نوعا من التخييل الذاتي يبنيه المؤلف لغرض نسج حياته الواقعية بشكل مغاير”. فيما يقوم الافتراض الثالث على أن “النص السير-ذاتي يراهن على القارئ، ويسعى إلى أن يخلق قارئا يجري عليه نوعا من التأثير”. وللتحقق من هذه الافتراضات الثلاثة، ولغاية تعميق البحث في مفهوم السيرة الذاتية النسائية وتوسيع دائرة فهمه، التجأت الكاتبة إلى الاستعانة بالنظريات النقدية الغربية في مجال السيرة الذاتية، وخاصة أهم رؤوسها المنظرين؛ أي الأكاديمي الفرنسي “فيليب لوجون” والمنظر الفرنسي “سيرج دوبروفسكي” وفيلسوف الإبستيمولوجيا الفرنسي “جورج غاسدورف” والباحث الفرنسي “جان فرنسوا شيانتاريتو” وعالم النفس النمساوي الشهير “سيغموند فرويد” والمحلل النفسي والمنظر الأدبي “جان بيليمان نويل”، فضلا عن أشغال ندوات متعددة حول الموضوع المدروس. لا بد من التوقف، أخيرا، عند الخلاصات التي تستنتجها الكاتبة من دراسة هذه الحالات، بالاعتماد على هؤلاء المنظرين. إذ تعتبر أن “هناك كتابة خاصة ترومها كتابة المرأة في علاقتها بذاتها”، قوامها “البحث عن الهوية الأنثوية من خلال الكتابة عن الذات”. كما ترى أن المرأة الكاتبة تصبح قادرة، وهي تكتب سيرتها الذاتية، على صوغ كل عوالمها، بعيدا عن مقولتي الصدق والكذب، وأن طريقتها في الكتابة عن ذاتها وعوالمها الخاصة تختلف عن طريقة الرجل، سواء من حيث الشكل أو المضمون. وتشير، كذلك، إلى أن الكتابة عند المرأة الكاتبة تتأثر بالأبعاد النرجسية والخنثوية، حيث تتغير طريقة الكتابة وتتعدد أساليبها بحسب الرغبة ومنعها. ولعل أهم خلاصة مثيرة تتوصل إليها الكاتبة هي تلك الكامنة في قولها إن “المرأة تكتب من أجل الآخر، لا من أجل الذات فقط”. أما الخلاصات الأخرى، فهي تتعلق بموانع الكتابة وشكلها ومحتواها وطرق صياغة التعبير عن الهوية الأنثوية أثناء كتابة الذاتية، إلخ. تكتسي الإشكالات التي طرحتها لطيفة لبصير في هذا الكتاب أهمية بالغة، لكونها تستقصي مجالا نظريا ونقديا فتيا وخصبا ومهمشا في الآن ذاته. ذلك أن السيرة الذاتية لدى المرأة، سواء في محكيها الواقعي أو فيما تعبر عنه من تخييلات حول الذات، لم تحظ بدراسات نقدية عميقة وموسعة حتى الآن. ويحسب للكاتبة والقاصة لطيفة لبصير جرأتها على خوض مغامرة بحثية مكنت، في النهاية، من كشف بعض التباسات هذا الحقل.