مع اندلاع ربيع الشعوب، برزت فرضية تفسيرية ترى أن وضع الملكيات العربية كان مختلفا سواء في شهود الحراك أو في التعاطي معه، إذ تفاعلت الملكيات العربية بنحو مختلف مع الحراك، وانتهى بها المطاف في الأخير إلى المحافظة على الاستقرار السياسي، سواء بشق طريق ثالث كما حصل في المغرب وجزئيا في الأردن، أو بدعم إقليمي على خلفية مواجهة تمدد إيراني كما حصل في البحرين، أو باعتماد إجراءات مالية أشبه ما تكون باستباق الثورة وشراء أصحابها المفترضين. لكن المفارقة أن الحراك عاد بموجات متباينة خاصة بالنسبة إلى الملكيات التي تبنت الطريق الثالث- المغرب والأردن- فعرف المغرب حراك الأطراف المقصية (الحسيمة وجرادة وغيرها)، على خلفية حق المناطق المقصية والمهمشة من التنمية، ثم أخذ الحراك في الأيام القليلة الماضية طابع المقاومة الاقتصادية، إذ لخص الحراكان الأول والثاني، معضلة السياسة والاقتصاد معا، والمتمثلة في زواج السلطة والمال. في الأردن، انطلق الحراك مؤسسيا على خلفية ضريبة على الدخل أرادت بها الحكومة أن تؤسس لنمط جديد من الاقتصاد يراهن على الموراد الجبائية المستخصلة من المواطنين عوض الاقتصاد الريعي القائم على المساعدات، ثم ما لبث أن تحول إلى حالة شعبية تجاوزت مجلس النقباء والهيئات السياسية والمدنية، ولم يعد أحد يملك السيطرة عليه ولا توجيهه أو تسقيفه، إلى درجة أن الحراك لم يتفاعل حتى مع الجواب السياسي الذي قدمته السلطة السياسية حين أقدمت على إقالة الحكومة. نقاط التشابه بين الحالتين المغربية والأردنية، كبير، فغلاء الأسعار أو فرض الضريبة على المواطنين، يفضيان إلى ضرب القدرة الشرائية وتهاوي الطبقة الوسطى، كما أن المقاطعين في المغرب، لم يلتفتوا إلى اعتذار رئيس الحكومة، ولا إلى إعرابها العزم عن تبني مرسوم يسقف أسعار المحروقات، ولا دفعها بحجة تضرر 120 ألف من الفلاحين. وتأتي نقطة التشابه الأخرى، في تجاوز الحراك في الحالتين للأحزاب والهيئات المدنية، بل أحدث ضمنها توترات غير مسبوقة، فما يجري داخل الأحزاب من خلافات حول المقاطعة، وما يوجهه أبناء بعض الأحزاب من نقد لاذع للقيادات على خلفية هذا الموضوع، يكشف حجم التوتر الذي أحدثته المقاطعة داخل البنيات الحزبية. الفرق بين التجربة المغربية والأردنية أيضا كبير، فالأردن لا يمتلك الإمكانات الاقتصادية المغربية، وآفاق تطويرها لنموذجها الاقتصادي محكوم بإكراهات الطبيعة والسياسة أيضا، لكن في المقابل، فالمحيط الإقليمي الأردني أكثر عنادا لأنه مرتبط بتوازنات استراتيجية صلبة، لم تؤثر فيها التحولات التكتيكية التي حدثت في المحاور بتراجع الرهان الأمريكي على الأردن لفائدة الرهان على السعودية والإمارات. في المغرب، الوضع مختلف، ففرص تطوير نموذجه الاقتصادي واعدة، ومحيطه الإقليمي يدعم استقراره، بحكم الحاجة الأوروبية لدولة قوية في جنوب المتوسط قادرة على تأمين حدودها، وقادرة على الوفاء بالتزاماتها الأمنية بخصوص مواجهة الهجرة السرية والإرهاب والجريمة العابرة للحدود. لكن ذلك كله، لا يغني عن الالتفات إلى رسالة الحراك ومضمونه السياسي، ولا يبرر تجاهل المخاطر التي يمكن أن تنجم عن استسهال الحراك وتبخيسه. فإذا كانت وتيرة الحراك في الأردن، قد بلغت الدرجة التي اضطر فيها الملك للقول إن أحد سيناريوهات الحراك هو فتح الأردن على المجهول، فإن مسايرة منطق "دولة رجال الأعمال"، وتغول لوبيات المصالح على المشهد السياسي، وتحويل الدولة وإمكاناتها إلى أداة لتسمينهم بحجة دعم المقاولة وتأهيلها وتشجيع التشغيل، يمكن أن يسقط الدولة في الخيارات الحرجة التي لا يتمناها أحد. صحيح أن في المغرب ملكية قوية، تفهم حركة شعبها، ولا تغادر موقع الشعب في الأزمات، لكن، طبيعة الملكية والسياقات التي تحكم فيها، تجعلها ميالة أكثر إلى تأمين التوازنات، وأحيانا كثيرة، بقدر ما يحتاج الشعب إلى ثورتها، تحتاج هي أيضا إلى ثورة تسند الملكية، وتعِينها على القيام بالإصلاحات التي كانت تعيقها توازنات ما قبل الحراك. بالأمس القريب، كان الحراك بخلفية اجتماعية، ومضمون سياسي، فأسعف الجواب السياسي في خلق الاستثناء الذي للأسف لم يستمر على نسق مطرد. اليوم، هناك طلب آخر، يمس بنية السياسة وبنية الاقتصاد معا، ويرتبط بأسس الاستقرار والسلم الاجتماعي. طلب على التوازن الاجتماعي وتمكين الذين هم في "التحت" من فرص العيش الكريم وحماية الطبقات الوسطى من التهاوي، طلب لا يجدي فيه إسقاط حكومة أو إجراء تعديل، وإنما يطرح سؤال إعادة صياغة النسق السياسي والاقتصادي من جديد على أرضية الدمقرطة والمساواة وتكافؤ الفرص. لا أحد يملك حس الملكية في التقاط نبض الشعب، فقد كانت أسرع المبادرين إلى تبني الخط الثالث بخطاب 9 مارس، لما كان الطلب على جواب سياسي ومبادرة إصلاحية استباقية، وهي اليوم تمتلك وحدها هذه الإمكانية، أي إمكانية إنصاف الشعب، من تغول لوبيات المصالح وهيمنتها على الاقتصاد والسياسة والإعلام، وربما استحواذها على الدولة.