النساء العاملات في الضيعات يعكسن الصورة المضطربة للعمل الفلاحي في المغربب، لكنهن أيضا يوضحن كيف يمكن أن تصبح حياة النساء العاملات جحيما لا يطاق. في هذا الروبورطاج، حكايات مؤلمة، لكنها بحجم المعاناة الحقيقية. في الوقت الذي يفتخر فيه المغرب بمنتجاته الفلاحية التي تساهم بنسبة 15 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وتتباهى الدولة ومسؤولي القطاع الفلاحي في المملكة بأرقام ونسب مهمة لتصدير ما جادت به الأرض إلى خارج البلاد، يبطن واقع الضيعات الفلاحية في المغرب مأساة وخروقات يندى لها الجبين، وتسائل مضمون الاتفاقيات التي تم توقيعها في قطاع يعيش منه أكثر من 40 في المائة من ساكنة البلاد. الضيعات الفلاحية في المغرب، التي خصصت لها مساحة مليون هكتار من مجموع مساحة البلد البالغة 71 مليون هكتار، والتي تسر الناظرين بجمالية خضرتها، وتسعد مسؤولي القطاع بما تدره، هي في الحقيقة تواري واقعا مخيفا ينهش كرامة الآلاف من المواطنين، أغلبهم النساء العاملات في الضيعات الفلاحية، تلك النساء اللواتي قذفهن شظف العيش إلى هذا القطاع غير المهيكل لضمان لقمة العيش، واللواتي قد يذهبن ضحيته على حين غرة. على ضوء حادثة السير التي ذهب ضحيتها 11 عاملا زراعيا في جماعة أيت اعميرة، قبل أقل من شهر، انتقلت "أخبار اليوم " إلى عين المكان بإقليم شتوكة أيت باها، لفتح ملف النساء العاملات في الضيعات الفلاحية جنوب المغرب، وتقصي واقعهن الذي لا يختلف كثيرا عما تقاسيه العاملات في باقي ضيعات المملكة لسنوات عديدة مضت. حكايات من رحم المعاناة لم يكن أبدا من السهل التقصي والبحث في موضوع النساء العاملات في ضيعات جنوب المملكة، خاصة وأن الذكريات الأليمة التي تختزنها ساكنة المنطقة جراء حادثتي السير المتتاليتين التي أودت بحياة زملائهم لا تزال طرية. بعد اتصالات دامت لأزيد من أسبوعين مع الفاعلين في المنطقة، رست آمالنا على إحدى النقابيات المعروفات في الإقليم لتسهل علينا عملية التواصل مع نساء تمكن منهن الخوف والخجل، فكان الاتفاق أن نلتقي على الساعة الرابعة صباحا بمنطقة بيوكرى التي تبعد بحوالي 38 كلم عن مدينة أكادير، قبل أن نكمل الطريق في اتجاه منطقة خميس أيت عميرة، لنرافق النساء في رحلة يوم واحد نتقارع معهن الطريق خلالها ونتقاسم مشاق يوم كامل نتعرف خلاله على قصصهن والوجه الآخر للحقيقة المتخفية وراء بساتين الضيعات، غير أن أول صدمة تلقيناها هو تراجع السيدة "النقابية" في آخر لحظة ورفضها الرد على اتصالاتنا المتتالية ساعة وصولنا إلى منطقة بيوكرى فجرا.. لنجد أنفسنا أمام خيارين؛ إما التراجع عن الموضوع والعودة حفاظا على سلامتنا في منطقة خلاء أو الاستمرار في البحث عن الحقيقة وتحمل العواقب.. فكان لنا خيار "المغامرة". الساعة الرابعة والنصف بعد منتصف الليل، وصلنا منطقة خميس آيت عميرة التابعة لإقليم شتوكة أيت باها، حيث صقيع البرد والظلام الحالك يسود المكان، فلا تكاد تسمع سوى الكلاب الضالة وعويلهم بعد رؤيتنا وكأنهم يترقبون حركة الغرباء عن المكان، من بعيد تتراءى لك أجساد أشخاص قادمين، لا تساعدك الإنارة العمومية الخافتة وشبه المنعدمة على تمييزهم قطعا، وعلى جوانب الطريق "بيكوبات" و"شاحنات" و"باصات"، إحساس غريب انتابنا، دفعنا إلى الترجل عن السيارة في اتجاه مصباح قوي للدكان الوحيد الذي يفتح. في هذا الوقت سألناه عن مكان الموقف حيث تجتمع النساء العاملات في الضيعات الفلاحية فإذا به يرد بسخرية: "وأنا علاش غانكون فاتح فهاد الوقت؟ راه هنايا كايتجمعو، على طول الشارع كله، هذه وقتهم هانتي هاهوما جاو هاديك السيدة مع ولدها منهم". فاطمة.. تهاب انحراف أبنائها أكثر من الموت بعد محاولات طويلة لإقناعها بالتحدث، أكدت فاطمة (اسم مستعار) المنحدرة من مدينة بني ملال أنها واحدة من النساء العاملات في ضيعة فلاحية نواحي منطقة هوارة، ففي كل يوم، تستيقظ على الساعة الرابعة صباحا كي تصل إلى المكان المخصص لاختيار العاملات في الخامسة، قبل أن تضع ابنها عمر ذا الست سنوات في الحضانة الكائنة قرب "الموقف"، "هذا ما نفعله كل يوم، لست وحدي، فجميع النساء تضعن أبناءهن في الحضانة هنا، مساكن كنفيقوهوم بكري معنا، هذه الحضانة تفتح على الساعة الرابعة صباحا لاستقبال أبناء العاملات مقابل 150 درهما للشهر، ولك أن تتخيلي إن كان للواحدة أكثر من ابن كم ستدفع ولكن ماذا سنفعل؟ نحن نعمل ولا يمكن أن نرمي بأطفالنا إلى الشارع هذه المنطقة موحشة، ونخاف أن ينزلقوا إلى طريق الانحراف أو المخدرات أو أن يتعرضوا للاغتصاب. هذه معضلة يعانيها شباب هذه المدينة وهادشي كيخلع". فاطمة، الأم لثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين 6 و10 و12، لا تعمل فقط في الضيعات الفلاحية، بل أيضا في بعض المعامل الخاصة بالتصبير، "حيث الظروف شوية أحسن، على الأقل كايكونو عندنا وراق التغطية الصحية والمعاملة أفضل والترونسبور كاين، وإن كان ما نتقاضاه هزيل ولا يتجاوز 60 درهما كما الضيعة، ولكني أنا أفضل المعمل، المشكلة الوحيدة أنه موسمي، يعني كنخدمو بشكل مؤقت بين شهر نونبر وبداية أبريل، طبعا باقي الشهور أعود لعمل الضيعات وهاد تمارة لي قدرني عليها ربي باش نربي وليداتي، الموت أهون من أنهم يضيعو"، تقول فاطمة بأسى كبير، قبل أن تطلب منا الابتعاد مخافة التعرض لمضايقات من طرف زميلاتها اللواتي بدأن في التقاطر على المكان فرادى ومجموعات. زهرة ذبلت تيجانها في بساتين الضيعات نساء ملثمات، لا تكاد ترى من ملامح شيئا سوى نظرات مترددة تتسلل من خلف حجاب، رفضت أغلبهن التحدث إلينا خوفا من شيء ما، فيما تملكت شابة في عقدها الثالث تدعى زهرة شجاعتها ووافقت أن تفتح قلبها لنا لتتقاسم جراح مضت وتأبى الاندمال. زهرة المنحدرة من مدينة آسفي، ودعت مقاعد الدراسة في مرحلة الثانوية قبل 15 سنة، بعد تعرضها لاعتداء جنسي من أحد زملائها، نتج عنه حمل، ما دفع عائلتها المحافظة لطردها وقطع الصِّلة بها بشكل نهائي: "قادتني الأقدار إلى أكادير، حيث استضافتني أسرة صديقة شقيقتي بعذر أنني قدمت للدراسة، أشهر فقط حتى بدأ بروز بطني والحبالة كتبان،اضطررت بعدها لمغادرة البيت، وبقيت كنعس فينما جاب الله مرة جردة مرة حدا الجامع، مالقيت لا حنين لا رحيم، ساعدني بعض المحسنين إلى أن أنجبت ابنتي مريم، آنذاك قررتأن أقف بصمود لمجابهة هذه الحياة الظالمة". تحكي زهرة "اشتغلت في تيليبوتيك لأعيش، فلم تكن 1000 درهم في الشهر تكفي لدفع أجرة كراء غرفة، وسد نفقات ابنتي وحليبها، آنذاك اشتغلت عاهرة نعم عاهرة في أحدكاباريهات المدينة، ولكن لم أكن مرتاحة قط، نصحتني إحداهن بالانتقال لخميس أيت عميرة، لأشتغل في جني الخضر، فكان ذلك، الآن أنا أعمل بعرق جبيني وإن كانت الظروفقاهرة، نحن نتعرض للتحرش والكريساج، والتهديد بقطع الرزق، مرة كاتجي كتخدم ومرة كيبتزك الباطرون باش تخدم، خصك تضحي بشي حاجة مقابل شي حاجة، تعياو ماتقولوالنساء والحقوق، هنا كنشوفو التحرش ونسكتو وأحيانا نمثلوا أننا قابلينو، لأن ردة الفعل المعادية ستحرمنا 60 درهم.." وتابعت: "حتى ايلا سلكتي من الباطرون ولي تحته، ممكنتتعرضي لهادشي فالشارع وياخدو لك حتى فلوسك تحت التهديد بالسلاح الأبيض، الأمن ماكاينش هنا وهادشي كله بسبب البطالة". مليكة: هنا الطاليان بلا فيزا "طرف الخبز صعيب وحار، ماشي غير جاو وسماو خميس أيت عميرة طاليان المغرب"، بهذه العبارة قاطعتنا مليكة ذات العينين الواسعتين والتي كانت مستندة إلى عمود الإنارةالقريب، لتردف: "هنا ستجدون النساء قادمات من كل منطقة في المغرب، ساكنة هذه المدينة هم في الحقيقة جميعهم وافدون من أسفي، بني ملال، زيان، الدارالبيضاء، خنيفرة… لذلك تسمى الطاليان بلا فيزا، كل واحدة منهن قذفتها الأقدار غصبا إلى هنا، ويستحيل أن تصادفوا شخصا سعيدا ويبتسم هنا".. مليكة التي لا تذكر سنها، تقول: "أنا أم لأربعة أبناء أصغرهم يبلغ 11 سنة، هذه المهنة لم نخترها بل هي اختارتنا، زوجي لا يعمل ملقاش الخدمة وقال لا، ولكن هذه المنطقة فلاحيةوهنا أرباب الضيعات يفضلون استقدام النساء وليس الرجال، فرصنا نحن النساء في العمل أوفر بكثير مهما كان سننا لا يهم، تعمل إلى جانبي شابات من سن 15 سنة وكهول فيسن 60 أو 70، برنامجنا اليومي يتكرر ويتشابه كل اليوم، نستيقظ على الساعة الرابعة صباحا نحضر وجبة الغذاء لنا وللأبناء طبعا، ديك ‘المريقة' لي سهل فيها ربي، وإبريق قهوة،لي كيحماضو وقت لغذا، الساعة الخامسة والنصف تجدنا في الموقف ننتظر قدوم الكابرانا، وهي السيدة المكلفة باختيار النساء المحظوظات للعمل في الضيعات واللواتي استطعنضمان قوت يومهن أو "الكانزا" يعني 15 يوما من العمل، طبعا ينبغي أن تكسب ود الكابرانا بأي طريقة فهي من تملك سلطة القرار، وهي الأمر والناهي في الموقف، وهذا سببرفض أغلب النساء التحدث إليك ‘خافو تحصلهم الكابرانا ولا البركاكة ديالها هنا وتمشي لهم 60 أو 70 درهما، حتى أنه أحيانا كثيرة كنعطيوها 5 دراهم كرشوة". وتابعت مليكة: "بعد أن تصل الكابرانا نتكدس في الشاحنة كأغنام عيد الأضحى، ونحن نطلب السلامة إلى أن نصل ضيعات الخضر ونقرأ ما تيسر من القرآن إلى حينعودتنا إلى البيت". حسناء العائدة من الموت في زاوية الموقف، التقينا حسناء شابة في عقدها الثاني، تنتظر الشاحنة التي ستنقلها لإحدى ضيعات شتوكة وهي تفترش الأرض، مرتدية منامتين مزركشتين وسروالا سميكا وثلاثةجوارب، هي واحدة من نساء الضيعات اللواتي تلثمن أيضا بقطعة ثوب تقيهن حرارة الشمس، وتخفي هويتهن أمام المارة، خشية أن يمر أحد معارفها أو جيرانها ويتعرف عليها ويدركأنها تشتغل في الضيعات الفلاحية: "نحن نعمل بعرق جبيننا مقابل 70 درهما، نجني الباذنجان تارة، والفلفل مرة أخرى، وأحيانا الطماطم والبطاطس، ولكن حفاظا على كرامتناوحرج السؤال وذل الحاجة وأيضا التحرش نتلثم ونتخفى، مابغينا حد يعرفنا". النساء العاملات في الضيعات الفلاحية بخميس أيت عميرة، تعملن أزيد من ثماني ساعات، وتتقاضينأجرا زهيدا يتراوح ما بين 60 أو 70 درهما لليوم، حسب نوعية الفلاح صاحب الضيعة ومزاجه: "نحن نعاني هنا، نتعرض لكل أنواع الظلم، من تحرش واستغلال، وسب، وقذف،والكريساج وإهانة من الكابرنا التي تخفض أجرنا أحيانا ما إذا لم يرقها تصرف، نعمل من الثامنة إلى حدود الرابعة أو الخامسة، ونتكدس في شاحنات تكاد تنهي حياتنا، والواحدةمنا إن كانت حامل تخفي ذلك، مخافة طردها من العمل فأرباب الضيعات لا يشغلون الحوامل.. كل هذه معاناة نقاسيها ولا أحد يكترث لا الحكومة ولا الدولة ولا غيرها، ترددت علىمسامعنا وعود كثيرة ولكن الله غالب"، تقول حسناء بأسى كبير وهي تذرف دمعة يتيمة قبل أن تتنهد بعمق لتكمل: "أنا واحدة ممن تعرضن سالفا لحادثة سير على متن شاحنة النقل،أصبت بكسر على مستوى معصمي، عالجت نفسي بنفسي، بعت ذهب والدتي لأتعافى، وأعود للعمل في أقرب وقت، طبعا لا نملك تغطية صحية ولا غيرها، لي مات الله يرحمه وليبقا حي يتداوى ويرجع يخدم ببساطة، الفقر كافر". من المسؤول؟ "نينجا الضيعات" لا تتحملن فقط المضايقات والإهانة، بل الطبيعة بدورها تستثنيهن من رحمتها، حيث تضطررن لتحمل الحرارة المفرطة داخل هذه الضيعات، والتي تناهز 40 درجةفي فصل الصيف، لتتضاعف في حالة عملهن داخل الحقول المغلفة بالبلاستيك، هذا طبعا إلى جانب لباسهن الموحد السميك الذي يواري جسدهن وهويتهن بالكامل.. كلهاظروف تشتغل بها نساء الضيعات المحسوبات على هذا القطاع غير المهيكل، واللواتي لا تخضعن لمعايير مدونة الشغل ولا تحظين بضمان اجتماعي أو تأمينصحي، هذا إلى جانب مخاطرتهن بحياتهن على متن الشاحنة المهترئة التي تنقلهن إلى الضيعات. السائقون: نحن أيضا ضحايا محمد أحد سائقي الشاحنات التي تنقل العاملات الزراعيات إلى عملهن، تحدث إلى "أخبار اليوم" خلسة ليبرئ ذمة زملائه سائقي الشاحنات من تهمة "استرخاص أرواح العمالوالعاملات الزراعيين"، قائلا: "حتى حنا كنترزقو لله، مول ال