إذا كانت الثورات عبر التاريخ قد أنتجت مجموعة من المفاهيم الإجتماعية و السياسية و الاقتصادية الجديدة التي ترسخت في العقل الجمعي للأمم الثائرة ، فإن الثورات العربية أغلقت ملف نقاش كان يعتبر إلى عهد قريب ذا حساسية بخلقه جدلا كبيرا في الوسط الأكاديمي و الحركي الإسلامي ، خصوصا بين صفوف الحركات الإسلامية المعاصرة سواء فيما بينها أو بينها و بين نظرائها من سائر الألوان الإديولوجية الأخرى ، هذه الحركات التي جعلت من هذا النقاش المثير (مفهوم الديمقراطية) ورقة أخيرة لحسم معركة دخولها للمعترك السياسي بالعالم الإسلامي ، إذ حاولت تكييف و تبيئة هذا المفهوم مع مضمون رسالتها الإسلامية حتى يستسيغ لها الإيمان به بعد انتقالها من المرحلة التنظيرية الذي كفر روادها بالديمقراطية شكلا و مضمونا مما جعل الدكتور فريد الأنصاري يسميهم بأصحاب نظرية الرفض (حسن البنا – سيد قطب – أبي الأعلى المودودي...) إلى المرحلة العملية التطبيقية مع الجيل الثاني للإصلاح (أحمد الريسوني – راشد الغنوشي – حسن الترابي...) الشاهد على الصحوة الدينية أواخر القرن الماضي ، مما يزكي الطرح القائل بأن الديمقراطية مفهوم فرضته ظرفية معينة على الإسلاميين سواء من منطلق فكرة قابلية الانتماء للمنتصر أو المتغلب بخلق صلات قربى معه كما جاء عند ابن خلدون ، أم أنه ضغط الواقع و الهجوم الاستشراقي الماكر كما قال الشهيد سيد قطب. و الآن ، و الأمة الإسلامية تعيش منعطفا تاريخيا حاسما يحتم عليها أن تكون فاعلا أساسيا في رسم مستقبل رسالتها ، فإن استحضار النسق الحضاري الذي أنزلت فيه رسالة الإسلام على سيدنا محمد صلى الله و سلم قد يكون مشابها للنسق الذي ولدت فيه الديمقراطية الحقيقية (الثورة الفرنسية) على الأقل تاريخيا ، لأن كليهما جاء لينسف بنية مجتمعية استبدادية و يقيم على أنقاضها واقعا عادلا يحترم الكرامة الإنسانية . لكن التمايز من الناحية الوظيفية سواء على مستوى النشأة أو الإمتداد الحضاري يوضح بجلاء أن الإسلام قد تفوق في معركته مع الإستبداد بأن اجتث جذور الوثنية و عبادة الأصنام التي كانت دوما بمثابة المرجعية التصورية للمجتمعات الجاهلية القديمة و نجح كذلك في انتاج العديد من القيم الإنسانية السامية أبرزها افراده الإنسان بخاصية تكريم الله عز و جل لعباده طبقا لقوله تعالى "و لقد كرمنا بني آدم" و التي تفوق أي حقوق سياسية أو اجتماعية يمكن أن يحملها أي نظام أرضي لبني آدم ، زيادة على أنه رسالة عالمية تعايش داخل دولتها التاريخية سلمان الفارسي ، صهيب الرومي ، بلال الحبشي و عمر بن الخطاب العربي في ظل نظام اجتماعي كان محدده الأساسي هو العدل. أما الديمقراطية المفتقدة لأي مرجعية تصورية ثابتة فلا يمكن لأي كان أن ينكر للأوروبيين نضالهم وكفاحهم من أجلها حوالي ثلاثة قرون إلى حين قيام الثورة الفرنسية ، فلم تتمكن من اقتلاع جذور العجرفة و الأنانية الغربية الوريثة للحضارتين الهيلينية و الرومانية ، القائمة على واحدية الغرب و مركزيته و المتطفلة على الخصوصيات الثقافية تحت غطاء الانفتاح و تعدد الثقافات مما ينفي عنها تلقائيا طابع العالمية ، و كما هو معلوم فالمشاريع القومية الإنتقائية أثبثت فشلها التاريخي في السمو بالذات الإنسانية و إعطاء الإنسان مكانته المستحقة لأنها ببساطة قاصرة و غير مدركة لحقيقة الإنسان ذاته و لحقيقة الكون و الحياة من حوله و علاقته بهما ، و هذا الذي آلت إليه الديمقراطية التي ساهمت إلى جانب نظم أرضية أخرى في تدمير الخصائص و القيم المميزة للإنسان عن الحيوان و الآلة ، و كذلك افراغ مجموعة من المفاهيم المجتمعية (الأسرة - المرأة..) من محتواها و من وظيفتها الحقيقية ، فبعد أن كان الإنسان مثلا في فرنسا تابعا لمولاه (Sujet) أطلقت عليه الثورة الفرنسية Citoyen (مواطن)، لكن الديمقراطية التي أطلقت عليه (مواطن) هي نفسها التي دمرته بأن لم تؤطره فتركته ينزلق نحو البهيمية فمتعته بحرية الالحاد و حرية الجنس و غيرهما ، مما يجعل من الديمقراطية نظاما ذا وظيفة تكتيكية مادية مشكتله الأساسية في أنه لا يدرك المعنى الحقيقي لأصل الإنسان. و إذا أردنا ربط ما تحدثنا عنه بالسياق السياسي و الثقافي الذي يعيشه العالم الإسلامي عامة و الحركات الإسلامية بصفة خاصة كتنظيمات متصدرة للمشهد السياسي في ظل الثورة و الثورة المضادة ، فإننا نخلص إلى أن هذه الحركات قد فشلت و لو ظرفيا في حماية الإسلام بأن صارت الديمقراطية في زمن الربيع هي المستهدف و ليس الإسلام مما ساهم في ولادة مفاهيم جديدة بائدة لن يكون لها أي صدى في المستقبل من قبيل (الإنقلاب على الديمقراطية – الإنقلاب على الشرعية – حماية الإسلاميين للديمقراطية...) دون إدراك ربما فرضته المرحلة بأن التيار المنقلب ظاهره على الديمقراطية و باطنه على الإسلام استهدف الهوية الإسلامية بمفاهيمها و قيمها النبيلة التي دائما ما شكلت عائقا أمام مشاريعه الإستعمارية الفتاكة و ليس الديمقراطية الخاضعة لتقلبات متعددة و تدوير متكرر عبر التاريخ. و من هنا يتضح لنا أن المخاضات الفكرية و السياسية الجارية حاليا بين نخبة العالم العربي الإسلامي ينبغي لها أن تعود لتناقش قضاياها بشمولية أكثر يدخل فيها الوازع الديني أو العقدي بشكل رسمي في تناول العلاقات الإنسانية ، هذا الأخير الذي تعتمده حضارة الغرب كخلفية معرفية في علاقاتها الدولية بصفة عامة ، كما نظر لذلك صامويل هانتنجتون بأن اعتبر العامل الديني لاعبا أساسيا و حاسما في صراع الحضارة الغربية مع الحضارات المنافسة لها و على رأسهم الحضارة الإسلامية التي حرم مفهوم الديمقراطية البشرية من تجربتها السياسية التاريخية الراقية. و بالرغم من وطأة الطغاة و المستبدين على شعوب الربيع ، إلا أن المستقبل يوحي بنهايتهم القريبة و بأن المشاريع المجتمعية التي تهتم بالإنسان روحا و مادة و تحميه من الصراع و التنابذ الذي تقوم عليه الحضارة الغربية المركزية القائمة ، هي من سينجح في إيصال الإنسانية إلى المعنى الجوهري و الحقيقي للحضارة كما عرفها محمد قطب "الحضارة هي الإرتقاء بالإنسان ليكون جديرا بالتكريم الرباني" أي الارتقاء به عقيدة و سلوكا و فكرا و معرفة ينبع منها النشاط المادي و لا تنحصر فيه ، و الإسلاميون وحدهم إذا راجعوا مفاهيمهم من سيملك مستقبلا أدوات بعث مثل هذه الحضارة ، لذا فإن أي نظام أرضي يعارض فطرة الإنسان و إرادته فهو زائل لا محالة ، حتى و لو كان هذا النظام هو الديمقراطية. و الله أعلم