دعا الملك محمد السادس إلى انتهاج مقاربة شاملة ومتجانسة، قادرة على التوفيق بين المطلب الأمني وبين مطالب التنمية البشرية والحفاظ على الهوية الثقافي، وذلك لمواجهة التحديات المتعددة التي أصبحت تهدد استقرار البلدان الإفريقية. وقال العاهل المغربي، في خطابه إلى القمة الفرنسية الإفريقية حول السلم والأمن التي بدأت أشغالها أمس، الجمعة 06 دجنبر، بالعاصمة الفرنسية باريس، تلاه رئيس الحكومة عبد الإله ابن كيران، (قال) إنه "لمواجهة التحديات المتعددة التي تهدد استقرار البلدان الإفريقية، أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى، انتهاج مقاربة شاملة ومتجانسة، قادرة على التوفيق بين المطلب الأمني وبين مطالب التنمية البشرية والحفاظ على الهوية الثقافية والعقائدية". وحول البعد الأمني، قال الملك "إن مسؤولية بلورة وتنفيذ وتقييم وسائل وعمليات الوقاية من النزاعات وتدبير الأزمات والحفاظ على الأمن وإعادة الإعمار، تظل على عاتق الأفارقة بالدرجة الأولى، من خلال المنظمات الإقليمية، منوها، في هذا الصدد، بالتدخل الشجاع والحاسم في مالي الذي قامت به فرنسا والرئيس فرانسوا هولاند، والذي تعزز بالتزام العديد من البلدان الإفريقية وبلدان المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في سبيل التصدي للتهديد الإرهابي الذي طال هذا البلد"، معتبرا أنه "بفضل ذلك استرجعت مالي سيادتها على مجموع ترابها، ولا بد لهذه المقاربة أن تظل النموذج المتبع في جميع مراحل إعادة الإعمار التي تلي فترة النزاع". وتابع الخطاب الملكي بالقول أن "هذه الروح هي ذاتها التي سادت خلال انعقاد مؤتمر الرباط حول أمن الحدود في دول شمال إفريقيا والساحل والصحراء في نونبر الماضي، والذي مكن من بلورة رؤية سياسية مشتركة وتبني خطة عمل تنفيذية". وفي سياق متصل، أوضح العاهل المغربي أن تنامي عمليات القرصنة في خليج غينيا "أصبح يشكل أيضا تهديدا ما فتئ يكبر، وبات من الضروري لتحركنا في مواجهته أن يستلهم العبر مما يجري حاليا في منطقة القرن الإفريقي وأن يعتمد على التوصيات ذات الصلة التي خرجت بها قمة ياوندي حول هذه الآفة". وأكد الملك، في الكلمة ذاتها، أن "مؤتمر الدول الإفريقية الواقعة على المحيط الأطلسي يمكن أن يشكل إطارا للتعاون والتشاور من أجل تحديد استراتيجية مشتركة للحفاظ على سلامة الملاحة البحرية على طول الشريط الأطلسي الإفريقي، الذي تهدده القرصنة والذي يعاني قبلها من العمليات المتزايدة لتهريب المخدرات انطلاقا من بلدان أمريكاالجنوبية"، داعيا إلى "ضرورة تعزيز التحركات الطوعية التي يتم إطلاقها على المستوى القاري من خلال الالتزام الدؤوب والملموس من قبل المجتمع الدولي"، ومشيرا إلى أن المملكة المغربية "جعلت القارة الإفريقية في صلب سياستها الخارجية، وكان خيارها الإرادي والطبيعي والاستراتيجي لصالح تعاون تضامني، جنوب-جنوب وثلاثي الأضلع، وجد ترجمته على الأرض من خلال تنفيذ العديد من المشاريع الملموسة لفائدة عدد من بلدان القارة". وبتزامن مع كل ذلك، يضيف الملك محمد السادس، "تم عقد شراكات بين القطاعين العام والخاص، وتنفيذ استثمارات هامة، تكللت بالنجاح في العديد من البلدان الإفريقية، وهمت مجالات المالية والبنوك والتأمين والاتصالات والبنية التحتية والمناجم وتخطيط المدن والسكن الاجتماعي، حيث أضحى المغرب أول مستثمر إفريقي في منطقة غرب إفريقيا والثاني على مستوى القارة". وأضاف العاهل المغربي أن المحور الثالث لأي استراتيجية "يهدف إلى تحقيق الاستقرار الدائم في إفريقيا ويهم الحفاظ على الهوية الثقافية والعقائدية لشعوبها"، مبينا "حيث أن التصدي بفعالية للتمظهرات العنيفة للتطرف والظلامية في منطقة الساحل والصحراء يكتسي نفس الأهمية التي يكتسيها الرجوع إلى منابعها واجتثاث أسبابها المعنوية ومرجعياتها العقدية المزعومة". وأكد على أن المغرب "أخذ على عاتقه حماية الإسلام السني الذي يدعو إلى الاعتدال والتسامح والانفتاح، والذي اعتنقته شعوب المنطقة عبر تاريخها، معتمدا في ذلك على الوشائج الروحية العريقة التي تربطه ببلدان منطقة الساحل وعلى مؤسسة إمارة المؤمنين، علاوة على تجربته الناجحة في مجال إصلاح الحقل الديني". وذكر في هذا الصدد بانطلاق برنامج تكوين 500 إمام مالي في المغرب، في إطار "الالتزام التام بتعاليم الوسطية وبالمذهب المالكي الذي نشترك في اتباعه". وأبرز الملك محمد السادس، من جهة أخرى، أن إطلاق أي استراتيجية لتحقيق الاستقرار المستدام في إفريقيا "يجب أن يعتمد على الدور الجوهري للمنظمات الإقليمية التي يجب أن تشكل المرتكز لأي مخطط عمل تفرزه مداولاتنا وأن تكون حجر الزاوية بالنسبة لأي استراتيجية تهدف إلى تحقيق الاستقرار والتنمية في قارتنا، والإطار الذي يحتضن أي مبادرة للاندماج الاقتصادي ومنبرا للتنسيق من أجل رفع التحديات المرتبطة بالتغير المناخي والتنمية المستدامة". ونوه العاهل المغربي بهذا الخصوص ب "التدخل الحاسم للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في مالي، كما نشجع اليوم تدخل المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا في جمهورية إفريقيا الوسطى، بارتباط مع فرنسا ومنظمة الأممالمتحدة"، وقال "إن المغرب يسعى في نفس السياق إلى إحياء اتحاد المغرب العربي وإعطاء توجه جديد لمجموعة دول الساحل والصحراء، علاوة على تطوير التعاون بين المجموعات الإقليمية، خاصة مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا". وأكد الملك محمد السادس، في رسالته لقمة باريس، على أن أي استراتيجية هادفة لتحقيق الاستقرار والتنمية "تفقد جدواها ومداها ومشروعيتها إذا لم تجعل الإنسان في صلب أهدافها، وقال جلالته إن "الشراكة التي نرجو بناءها مجتمعين تتطلب نهج مقاربة طوعية ترمي إلى تيسير الحركية والتنقل الحر للأشخاص، ولمواجهة ظاهرة الهجرة، التي غالبا ما تصاحبها مآس إنسانية وتكون مصدرا لانعدام الأمان، لا بد من تطوير مقاربة جديدة ترتكز على خطوات طوعية وسخية وإنسانية، دون إغفال المتطلبات الأمنية". وأشار إلى أن تدبير ملف الهجرة "يتطلب تنفيذ استراتيجية شاملة ومندمجة تجمع بين ضمان انسياب حركة الهجرة القانونية ومحاربة شبكات الاتجار بالبشر، ونهج سياسة للتنمية المشتركة، كما سبق أن أكدت على ذلك الندوة الأورو-إفريقية حول الهجرة والتنمية التي انعقدت بالرباط سنة 2006". وعن موقف المغرب من قضية الهجرة، قال الملك " لقد تحولت المملكة المغربية التي كانت بلد مصدر ثم بلد عبور، تحولت منذ بضع سنوات إلى وجهة يفضلها العديد من المهاجرين غير القانونيين من جنوب الصحراء. وانطلاقا من واجب التضامن، ومن تقاليد الضيافة والاستقبال التي يتميز بها، قام المغرب مؤخرا بوضع سياسة جديدة للهجرة (..) ففي إطار الاحترام التام لالتزاماته الدولية، خاض المغرب رهان تبني سياسة وطنية رائدة في المنطقة، إنسانية في مقاربتها ومسؤولة في خطواتها، وتراعي حقوق المهاجرين واللاجئين الأساسية تمام المراعاة من حيث مقاصدها". وأعرب العاهل المغربي عن "اعتزازه بالدعم الكبير الذي لقيته هذه المبادرة، خاصة على المستويين الإفريقي والأوروبي"، وقال في هذا الصدد، "نعيد طرح المقترح المغربي لإقامة "ائتلاف إفريقي للهجرة والتنمية، ينطلق من هذه المبادرة، ويشكل إطارا موحدا يبحث مخاطر الهجرة غير الشرعية، وفرص الهجرة القانونية والتنمية المشتركة التي لابد من تحقيقها والتي تعكس المسؤولية المشتركة بين أوروبا وإفريقيا في هذا المجال".