إن نصرة النبي محمد عليه السلام ونصرة جميع أنبياء الله تعالى من لدن آدم إلى سيدنا عيسى بن مريم -عليهم السلام جميعا- أمر واجب وفرض حتم على كل مسلم، ففي نصرتهم نصرة للحق والعدل، ونشر للسلم والرحمة، ومحاربة للتطرف والإرهاب… وقد ورد في القرآن الكريم الأمرُ بتعزير النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ونصرته، (والتعزير في اللغة يرِد بمعاني كثيرةٍ منها: الدفاع عن الشيء نصرة له، فيكون المطلوب منا أن ننصر النبي عليه السلام عندما يقتضي الأمر ذلك). ومن ذلك قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، (الأعراف/157). وقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (الفتح/8-9). ولكن كيف يجب علينا أن ننصر أنبياء الله وفي مقدمتهم نبينا محمد عليه السلام؟ هل بقتل من يرسم الرسوم الساخرة من المقدسات؟ أو إعدام أصحاب الأفكار المسيئة؟ ألم يستهزئوا من قبل بالأديان كلها؟ ألم يشوهوا صورة المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام- في بلادهم أصلا قبل تشويه صورة النبي محمد عليه السلام؟ بلى، فالحرب على المقدسات والشعائر الدينية قديمة، والذين يقودونها لا يفرقون بين المسلم واليهودي والنصراني… في الغالب، وإن كان حظ المسلمين من جرائمهم أكبر من غيرهم طبعا. وهم في الغالب ملحدون، أو من فرق أخرى متطرفة التوجه، مثل اليمين المسيحي المتطرف. وهذا التوجه المتطرف هو الذي نلمسه في رسومات أسبوعية "شارلي ايبدو" الفرنسية السيّئة السمعة، والتي جعلت من شعائر الموحدين مادة خصبة للسخرية والاستهزاء واستفزاز مشاعر الملايين من الموحدين، حتى جرّت هذا الصراع وهذا الانتقام. إن كل ما يحدث من فتنة وصراع حول هذه الرسومات وغيرها تتحمل فيها هذه الأسبوعية تبعاته ولو كانت قاسية، وإن كنا -طبعا- لا نتفق على الإذاية الجسدية إلا بحكم عادل من قضاء عادل منصف. ولكن عندما يُظلم الإنسان ظلما شديدا مبالغا فيه، فإن أي ردة فعل قد يقوم بها -ولو كانت كارثية- فإنه يُنظر إليها بعين الرضا من الجل، أو على الأقل بغض الطرف. وهذا ما حصل مع هذه الأسبوعية، فجل المسلمين إما راض عن هذا الانتقام من هذه الأسبوعية أو غاض للطرف عنها؛ لأنهم مستشعرون جريرة وجرائم هذه الأسبوعية في حق المقدسات الإسلامية منذ زمن. كان الأولى بالدول الإسلامية أن يكون لها موقف صارم واضح في مثل هذه الأحداث وغيرها، لتكون لهم قوة ضغط على الحكومات الأوربية حتى تلزم هذه الصحافة "المريضة" بالبحث لها عن مواضيع اجتماعية حقيقية تعالج مشاكل الأمة الأوربية ولا تزيدها مشاكل. فما الذي استفادته هذه الأسبوعية من نشر رسومات مسيئة للنبي محمد وللإسلام غير الكراهية والانتقام والفتنة؟ المقصد واضح جدا. النصرة الحقيقية لنبينا -عليه السلام- من الإساءات المتتالية: بعيدا عن الانفعال الآني الذي يحدث بعد كل إساءة للنبي عليه السلام أو للإسلام، (والانفعال لا شك أنه واجب ومطلوب، ولكن في حدود معقولة ومُغَيّا بغاية وبمقصد شرعي)، بعيدا عن هذا الجو "المُكَهْرب"، حريٌّ بنا -نحن المسلمين- أن نسأل عن المطلوب منا تجاه هذه الإساءات -الكلامية والكتابية- للدين وللأنبياء؟ قد كثر الكلام عن وجوب نصرة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في زماننا هذا، وهذا أمر حسن ولا شك، بل واجب ومطلوب من كل مسلم شرعا أن ينصر نبيه بالقدر الذي يستطيعه ويتقنه. لكنْ ينبغي لنا أن نركز على الأمور الحقيقية في النصرة، وأول هذه الأمور: أ- التمسك بشريعته وسنته وهدْيه في حياتنا كلها. ب- العملُ على نشر سيرته وتوجيهاته وبلاغ ذلك لأعدائه بالحسنى. ج- ثم بعد ذلك الدفاع عن جنابه الشريف ضد من ينتقص منه دفاعا يكون أساسه العلم، وأركانه الدفع بالتي هي أحسن، وسقفه الصفح والعفو. د- ثم يكون آخر الدواء الكي، وهو التضييق. نعم، إن كانت هناك فلتة من بعض المسلمين دفعتهم الحميّة الدينية الفوّارة إلى أن يضروا بالمسيئين الذين تجاوزوا الحدود في الإساءة، فينبغي فهمها في دائرة ردة الفعل الطبيعية. خاصة وأن هؤلاء المسيئين ليس هناك قضاء يردعهم ولا منظمات تضغط عليهم… ولكن ينبغي أن نعلم -نحن المسلمين- أن مقابلة السيئة بالعفو والصفح هو الحل الأمثل، وهذا ليس استسلاما ولا تخاذلا، بل حكمة وتبصر إن كانا عن قوة وعلم. وهذا الأصل مستفاد من توجيه القرآن الكريم لنا نحن المسلمين في تفاعلنا مع إساءة المخالفين لنا ولشرائعنا ورموزنا، فقد جاء في كتاب الله تعالى قوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، (آل عمران/186). فالله تعالى في هذه الآية الكريمة يخبرنا أننا سوف نتلقى الأذى الكثيرَ من اليهود والنصارى (أهل الكتاب) ومن باقي الأمم الأخرى غير المسلمة، مع التأكيد على وقوع هذه الإذاية لا محالة. والإذاية في الآية مطلقة، فتشمل كل المجالات الممكنة، وعلى رأسها الدين. فما الذي ينبغي على المسلمين فعله تجاه هذه الإذاية الكلامية إذن؟ الجواب هو: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، فحثنا في المقابل على الصبر والتقوى؛ لأن ذلك من عزم الأمور وأحكمها، وذلك أفضل من الانتقام، وثماره أفضل. نعم إن الانتقام يشفي الغليل ويفرح النفس، ولكنه لا يحل المشكل، بل الانتقام لا يولد إلا الانتقام مضاد… وهكذا إن قابلنا السيئة بمثلها لن تنتهي السيئات في خضم الرد والرد المضاد. قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت/34). فكم من مسيء للإسلام ونبي الإسلام أسلم بعد أن تعرف على حقيقة الإسلام، وما المخرج الهولندي "فان" مخرج فيلم "الفتنة" المسيء للإسلام عنا ببعيد، حيث راج في الأوساط أنه أسلم هو وابنه! وترْكُ هؤلاء المسيئين على قيد الحياة، مع الدعوة طبعا إلى معاقبتهم بأقصى العقوبات، لعله طريق فيه أمل كي يتعرفوا على الإسلام أكثر فيقلعوا عن الإساءة، أما الإسراع بإزهاق روحهم فهو الحكم عليهم بالتعاسة الأبدية وعدم ترك أي فرصة لهم للتراجع والتوبة. وإذا نظرنا إلى تاريخ الأمة الإسلامية نجد أنه كلما أوذي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو انتُقص من الإسلام فصبر المسلمون على الأذى وقابلوا السيئة بالحسنة؛ إلا وازداد الإسلام انتشارا وقوة، وبالعكس، كلما قابل المسلمون السيئة بمثلها إلا وكثرت الأحقاد والمكائد على الإسلام وداره، ووقع النفور من المسلمين، خاصة في زماننا هذا. فديننا قوته الحقيقية ليست في المواجهة بل في الاحتواء، وليست في المنابذة بل في التقارب، وليست في التنافر بل في التحاور؛ لأن الإسلام هو دين جميع البشر، فوجب على حاملي لوائه أن يوصلوه لجميع البشر بصورة محبّبة وجميلة وواضحة، مع الصبر على تحمل المشاقّ وتقديم التضحيات في سبيل إيصال هذه الصورة الصحيحة. وفي الختام لا بد من التنبيه إلى أنه يجب على المسلمين، حكومات وشعوبا، أن يتفاعلوا مع هذه الإساءات، كل حسب موقعه ومستواه وقدرته، فإن كان القتل والضرر البدني ليس حلا في مثل هذه الصراعات، فإن التدافع بالأفكار وبقطع العلاقات الدبلوماسية والضغط الاقتصادي ونحوه من الحلول المجدية الناجعة في نصرة خير البرية… هذا كله ينبغي أن يكون منا ومن حكوماتنا ومؤسساتنا قبل أن نبدي التعاطف مع ضحايا الأسبوعية، فقد مات منا الآلاف ظلما وعدوانا ولم يتضامن معنا أحد. وإن كنا لا نشمت في أحد، ولكن الإنسانيّة الزائدة نشمئز منها. فهل من قرارات صائبة تعود بالرحمة والنفع للمسلمين والإسلام نصرة لنبي الرحمة وترجع المتغطرسين إلى رشدهم؟ نرجو ذلك. والله الموفق للصواب.