اشتغلت الحكومات السابقة في ظروف اقتصادية محلية ودولية عادية وبرغم ذلك كانت تواجه الصعوبات المالية باتخاذ قرارات سهلة ذات تأثير سلبي جدا على أجيال المقبلة، حتى لا تؤثر على شعبيتها، ومن ذلك: 1- اللجوء إلى الاستدانة من الداخل ومن ثم منافسة الفاعليين الاقتصاديين المحليين على السيولة الموجودة بالبنوك. 2- الاستدانة من الخارج بشكل مفرط ومن ثم رهن الأجيال المقبلة بديون طويلة الأجل، مرفوقة بفوائد عالية، ومخاطر تقلبات أسعار الصرف بالأسواق الدولية. 3- والأخطر اللجوء المفرط لآلية الخوصصة لا من أجل ضخ عائدات بيع المؤسسات العمومية( وقد بيعت مؤسسات مربحة جدا كاتصالات المغرب مثلا ) في بند الاستثمارات بل من أجل مواجهة عجز الموازنة. والحقيقة أن هذه الإجراءات لا تظهر للوهلة الأولى أنها تمس جيب المواطن ومن ثم تجنب الأحزاب المغامرة بشعبيتها، لكنها بكل تأكيد هي التي أوصلتنا للوضعية المالية الحرجة التي دخلت عليها حكومة بنكيران التي امتلكت الجرأة لاتخاذ قرارات، وإن كانت تظهر أنها لاشعبوية في الوقت الحالي - وقد تشكل مغامرة سياسية لحزب العدالة والتنمية - لكنها قطعا تشكل خطوة غير مسبوقة لتصحيح وضعية ظلت أحزاب وحكومات أخرى عاجزة عن اتخاذها. القرار الأصعب بنكيران كان بوسعه أن يلجأ للخيارات الثلاثة الآنفة الذكر، ويجنب نفسه وحزبه رهانا محفوفا بالمخاطر، لا بل وكان له أكثر من مبرر واقعي للجوء لمثل هذه الإجراءات في ظل ظروف اقتصادية متأزمة محليا ودوليا، إذ كان بوسعه ذلك لكنه اتخذ القرار الأصعب بالبدأ في تفكيك صندوق المقاصة ل : أولا: لتخفيف العبء على موازنة البلاد ( 54 مليار درهم دعم مباشر لا يستفيد منه المواطن العادي سوى بحدود 20% فقط بينها 80 بالمائة الأخرى تذهب لغير مستحقيها)، ثانيا: التمكن من توجيه هذه المليارات إلى دعم الاقتصاد المحلي من جهة وتحسين جودة الخدمات الصحية والتعليمية، و توفير فرص عمل جديدة. وثالثا: تحرير السوق نهائيا أمام أكثر من فاعل ومنافس وشركة، وهو ما قد يؤدي إلى خفض الأسعار كما حصل مع قطاع الاتصالات على سبيل المثال، بشرط أن تتحمل الحكومة وأجهزتها مسؤولية ضبط هذه السوق وتوفير بيئة منافسة حقيقية ترفع من مستويات جودة السلع والخدمات وتخفض من الأسعار. هناك أكثر من جهة حزبية وغير حزبية تزعجها جرأة حكومة بنكيران، لأن هناك أكثر من مؤشر على قدرة هذه الحكومة على النجاح في مغامرتها هذه، لا أقل من أنها قد استبعدت الرهانات السياسية الضيقية وحاولت النظر إلى الموضوع من زاوية استراتيجية تستحضر مصلحة الوطن قبل كل شيء. بالمجمل حكومة بنكيران تستحضر - وهي تحاول إعادة التوازن إلى المالية العامة-، برنامج التقويم الهيكلي الذي أدخل البلاد في نفق مسدود، وتداعيات الأزمة المالية العالمية على دول كانت حتى عهد قريب بمثابة حلم للمغاربة للعمل فيها، وهي الآن تئن تحت وطأة الفقر والبطالة، إسبانيا البرتغال وإيطاليا على سبيل المثال. مندوبية التخطيط بالاتجاه ذاته، نقلت وسائل الإعلام عن المندوبية السامية للتخطيط أن رفع أسعار المحروقات، قد يرفع الأسعار ومن ثم التأثير على الطلب المحلي ومعدل النمو العام للاقتصاد، وهي احتمالات لا يمكن نفيها من الناحية الاقتصادية ، لكن الحكومة التزمت باتخاذ كافة الإجراءات لعدم حصول أية ارتفاعات. بالمقابل تحدثت المندوبية السامية للتخطيط عن أن تفعيل نظام المقايسة (وتفكيك صندوق المقاصة) سيحسن رصيد الميزانية والرصيد التجاري، وهما مؤشران سيبعثان برسائل طمأنة للمستثمرين الأجانب والمؤسسات المالية ومؤسسات التصنيف الائتماني، بما يعني جذب مزيد من رؤوس الأموال الخارجية، وتحسين التصنيف الائتماني للمغرب الذي يرفع قدرته على الولوج لأسواق الدين العالمية بأقل تكلفة، وكل هذا يتيح فرصا أكبر لتحفيز الاقتصاد المحلي، وتوفير فرص عمل جديدة، وهذا الأهم في مثل هذه القرارات وفي مثل هذه الظروف. * صحافي بالدوحة