يتعمدون في كل حديث رسمي ذكر التغيير، الأمور تغيرت، عقلية المخزن تحسنت، بالفعل رأيت اختلافا عما كان يحكيه الآباء. أصبح (المقدم) المحترم لطيفا، لم يعد يطلب رشاوى، فقط يبتسم، وأنت تبتسم، ثم يبتسم، وأنت تبتسم، فإن كنت نبيها فلا أقل من أن يبتسم جيبك أيضا، وإلا سيبتسم المقدم هذه المرة طويلا ويطلب منك بكل ود ولطف أن تعود في الأسبوع المقبل، ليس لأن طلبك غير جاهز، بل لأنك غير جاهز لأخذ الطلب؟؟ وقفت في طابور الدائرة الأمنية طلبا ل(بطاقة الهوية؟؟) انتظرت ككل الطابور طويلا، ثم انتبهت لأفراد يدخلون المكتب مباشرة، ثم يخرجون وقد أصبحوا مغاربة وهم يبتسمون، مغربي تلو المغربي، ابتسامة تلو الابتسامة، كان الموقف غريبا ! لأني لم أزر من قبل دائرة أمنية، تقدمت الطابور ودخلت كأولئك المغاربة مبتسما، تبسم الضابط وقال: أنا كلي آذان.. تفضل ولا تسل.. كل شيء جاهز. !! وبفعل بديهتي المغربية السريعة، عرفت أنه مخزني، فقد كان يبتسم، وهو ينظم أوراقا كلها من فئة الخمسين درهما ويدسها في جيبه. جرى بعد ذلك حديث مشوق في تاكسي كبير بين الراكبين، حول تغير الأوضاع، بالفعل؛ المغاربة شديدو الملاحظة، مواكبون لكل التطورات. إنه واقع مغربي معقد، الكل يتحدث عن التغير الطارئ، تغيرت أشكال الجهاز الضخم الذي يرعى كل أنواع الفساد، حلقوا شواربهم، لبسوا بدلات أنيقة تخفي أجسادهم القديمة. رغم تقدمهم في السن، ما زال شعرهم كثيف يميل إلى سواد شديد. فكل جهاز يرعى الفساد يملك قوة مناعة تتجسد في جهل الشعب وفن الإلهاء، هذا هو التغيير الحقيقي الذي حصل. استقدم الجهاز أشكالا جديدة، بعد أن روضها في سيرك خاص بذلك، والترويض يتطلب كلا الوجهين، أصبحوا بعض الترويض يُكبّرون عند مداخل كل مدينة بفضل ولي النعمة وحامل مفتاح زنزانة الترويض، باعوا كل شيء حين علموا أن الأمور بالفعل تتغير. لكنهم وقعوا فيما حذِرُوا منه عبر التاريخ، ليس الكل قابل للترويض، هناك مخلوقات إن حاولت ترويضها ستعضك في أول فرصة، لأنها ببساطة تنتمي إلى عالم يعيش فيه الإنسان كريما، ويموت كريما، لا يبيع إلا بما يزيد في كرامته، لا يبتسم مقابل بطاقة هوية، أو عقد ولادة. ولكي نصل إلى نقطة مهمة، لا بد من إقحام النظام في حديثنا، لأنه بالفعل نظام متكامل من الفساد، يرعى شؤونه ومصالحه بتنظيم دقيق، لا يريد لقطيع الشعب أن يتحرر من قبضة الجهل، لا نقصد به هنا الجهل الناتج عن عدم الاستفادة من التعليم الرسمي، فالتعليم في الأخير من صنع النظام، وهو في أحسن الأحوال ينقل المواطن من حالة الجهل إلى حالة الغباء، بل يريده أن يبقى شخصا فرديا يرى كل شيء، ولا يعرف ماذا رأى؟ يعرف أن الواقع مرير، لكنه يقارن نفسه دائما بمن هو أسوأ منه. والنقطة الأهم بعد المهم في الفقرة أعلاه، هي أن تغير نظام الفساد وتأقلمه مع متغيرات العصر وتقلباته، ليس مستمرا، ولا دائما؟ لأن أجيال الوقت الحالي تتميز بسرعة تغير مذهلة، ويعود الفضل الأكبر إلى تكنولوجيا التواصل المتعددة الأطراف، فلا أحد حتى النظام نفسه ينكر أن جيل الشباب الحالي والقادم لم يجد ذاته في ظل النظام القائم. سواء اقتصاديا أو اجتماعيا، ولم أذكر المجال السياسي، لأن هذا الجيل يهتم بما يلبي اعتراف المجتمع به، وليست السياسة من صلب اهتماماته، وحين يفكر في نقد نظام الفساد والمطالبة بإزالته فليس من قبيل نضج سياسي، وإنما من منطلق الرغبة في خلق جو ومجتمع يقدر شخصيته ويلبي حاجاته. إنها طبيعة الإنسان الأولى، البحث عن الذات، الاعتراف، وقد تتطور بعد ذلك لتشكل وعيا جماعيا يفكر في المصير ويقرر حينها هويته وشكله.