لا شك أن النص هو الركن الأساس في البناء الحضاري للأمة الإسلامية. و ما كان لهذه الأخيرة أن تبني حضارة كونية، ممتدة عموديا و أفقيا، شرقا و غربا، لولا قيامها على النص. فالنص- و أريد به الوحي، قرآناً و سنةَ- هو الدستور الرباني المحدد لمعالم الهوية الإسلامية و منهاج حياة الأمة، شعبا و دولة. و لهذا فالنص هو القوة العقدية، و الشرعية، و الأخلاقية الدافعة للعمل الإسلامي؛ و لا يمكن تصور عمل إسلامي لا يستند إلى نص الكتاب و السنة. فالعمل الإسلامي اشتغال بالنص و في النص، لإقامة الدين في النفس، و المجتمع، و الدولة، و الأمة. و إقامة الدين تكون بإقامة أركانه في العقيدة، و الشريعة، و الأخلاق، حتى يصبح الدين منهاج حياة الأمة في مختلف مجالاتها الاجتماعية، و الثقافية، و الاقتصادية، و السياسية. فالعمل الإسلامي- و أقصد به كل الجهود المنظمة و غير المنظمة لإقامة الدين- ليس مجرد حراك اجتماعي يهدف إلى تحقيق مصالح مدنية كتوفير المسكن، و العمل، و المأكل، و المشرب؛ و لكنه قبل ذلك و بعده يحيل إلى تلك الجهود التي تبذل في سياق التدافع الحضاري لإعادة الأمة إلى وضعها الأصل، و إطارها الحضاري الذي تحدده عقيدتها، و شريعتها، و قيمها الأخلاقية. و لهذا فمن الانحراف المنهجي أن تُحصر وظيفة العمل الإسلامي في قضاء المصالح الخبزية للمجتمع ابتغاء مرضاة الناس، أو الخروج بالعمل الإسلامي من سعة إقامة الدين إلى ضيق إقامة الدولة الإسلامية. صحيح أن إقامة الدولة الإسلامية من جنس إقامة الدين، إلا أنه من الخلل تفويت فرص الدعوة و بناء الأمة قيميا و تربويا على حساب مكاسب سياسية محدودة. فالمطلوب من العاملين في العمل الإسلامي أن يشتغلوا على جبهات متعددة، تحقيقا لمقتضى شمولية الاسلام، مع مراعاة الأولويات و الموازنات في جلب المصالح و درء المفاسد. إلا أن التحدي الأخطر الذي يواجه العمل الإسلامي اليوم، سواء كان في شكل أحزاب إسلامية أو حركات إسلامية، هو اتساع الهوة بين النص و الواقع العملي من جراء الاستلاب الأيديولوجي الناتج عن إسقاط التجربة الغربية في علاقة الدين بالشأن العام على السياق الحضاري للأمة الإسلامية. فالجميع يعلم أن أوروبا شهدت خصاما و انفصاما نكدا في عصر الظلمات بين الدين و الإنسان نتج عنه تمرد هذا الأخير على الظلم و الطغيان الإيديولوجي للكنيسة على الإنسان، الذي استغنى عن الدين، و أله ذاته بدل إله الكنيسة، و بدأ رحلة البحث عن بدائل أيديولوجية لتحقيق ذاته و تنظيم محيطه الاجتماعي، و الاقتصادي، و السياسي، فكانت الحصيلة التاريخية ما شهدته أوروبا من ركام أيديولوجي كالماركسية، و الشيوعية، و الرأسمالية، و الليبرالية...و غيرها من الحركات في مختلف الميادين الاجتماعية، و الاقتصادية، و السياسية، و الفلسفية، و الأدبية، و الفنية... و كان الاستعمار و قابلية الأمة للاستعمار عاملين أساسيين في إسقاط تجربة التيه الأيديولوجي الوجودي عند الغرب على الأمة الإسلامية، فأصبح نخبة من أبناء جلدتنا يحاربون ذاتنا الحضارية بنفس النفَس، و الخطاب، و الحمولة الأيديولوجية التي عانت منه الكنيسة في الغرب. و هكذا أقحموا الأمة في تجارب أيديولوجية هجينة كبديل عن الاسلام، متجاهلين هوية الأمة الثقافية و الحضارية. و لعل هذا من أبرز الأسباب التي أحدثت الانفصام بين النص و الواقع، فأصبحت الأمة لا تستند إلى النص كمكون روحي و حضاري للأمة، و لكن إلى مرجعيات أيديولوجية ينفصل فيها الدين عن الدولة، و الأخلاق عن السياسة. فلا غرو إذا أن جل الخطابات السياسية المعاصرة تتفرع عن تجربة التيه الوجودي، و رحلة البحث عن بديل أيديولوجي يملأ الفراغ الروحي في الإنسان، و يعطيه النموذج الأمثل في تدبير الشأن العام للمجتمع. إن الديمقراطية و التعددية، و العلمانية و المدنية، و الحرية و حقوق الإنسان، و غيرها من المفاهيم التي ظاهرها الجنة و باطنها العذاب، فروع و أغصان لشجرة واحدة، هي شجرة العصور الوسطى، و رحلة الحرب على كل ما هو ديني باسم كل ما هو مدني. و يؤسفني القول أننا، منذ شيعنا الرجل المريض، أصبحنا نستهلك تجربة الضياع تلك، و نحشو بها خطاباتنا، و نتداولها بدون حرج؛ بل و ندافع عنها و نحن نتحرج في وصل الرحم بين ذواتنا و النص من جهة، و بين النص و الواقع العملي من جهة أخرى. لقد أصبحت التجربة السياسية الفتية لكثير من الأحزاب الإسلامية في ضيق شديد نتيجة الضغوط التي تمارس عليها من لوبي العلمنة المتفشي كالأخطبوط في كثير من قطاعات الدولة. فالأحزاب الإسلامية التي وقفت أمام تحدي "إقامة الدين على مستوى الدولة" مضطرة إلى تشكيل حكومات تحالف لتشكيل الأغلبية مع أحزاب أخرى مخالفة لها في المرجعية و الرؤية؛ و هكذا وجدت نفسها مكرهة على تحمل إملاءات الدساتير ذات النفس العلماني باسم الديمقراطية، و التعددية؛ و هي مفاهيم خداعة، لا تعدو ان تكون آليات أيديولوجية و سياسية يراد منها عزل الدين عن تدبير الشأن العام للأمة، و تصريف مشروع علمنة الدولة باسم المدنية و حقوق الإنسان. إن على الأمة أن تنتبه لهذه المآمرة الأيديولوجية، و أن تصطبغ في سلوكها و خطابها ب"النص" باعتباره "روح الدين". و ليس هذا بالأمر العسير عليها إذا استثمرت إرثها التاريخي و الحضاري، الذي يلزم أولوا الأمر بالإسلام باعتباره الخيار الديمقراطي الأوحد للشعوب و الحكومات في العالم الإسلامي. و لا ينبغي أن نفهم من هذا إقصاء باقي مكونات الأمة- و هي جزء لا يتجزأ من الأمة- من الإسهام و المشاركة في مشروع التنمية و الإصلاح؛ و لكن ينبغي احتواؤها و استيعابها لخدمة المصالح المعتبرة شرعا. ذلك أن كثرا من القيم و المصالح التي يدعيها أعداء الإسلام الأيديولوجيون باسم العلمانية أو المدنية (و هما وجهان لعملة واحدة في نظري) لا تتنافى مع مقاصد الدين و كلياته، و من الخطأ المنهاجي أن نتحاشى مرجعيتها النصية في ديننا، و نترك المنبر للعلمانيين ليتداولوها باسم المدنية، و المواثيق الدولية، و حقوق الإنسان. إن من الزيغ الفكري الاعتقاد أن وظيفة الحزب الإسلامي مقصورة على تحقيق مصالح العباد الخبزية بإشباع البطون و البنون، بدعوى أن ذلك سيؤول-دون حاجة إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر-إلى صلاح الأمة مع الدين، فيتخلى الناس عن تعاطي الفواحش و الجهر بالمعاصي. إن الدعوة الإسلامية وظيفة شاملة جامعة، تتجاوز ما هو وعظي و تربوي، أو فكري و علمي، إلى ما هو سياسي و "دبلوماسي"، و من المجازفة بالعمل الإسلامي في بعده السياسي و الدبلوماسي أن نتنازل عن أخلاقنا بذريعة "الضرورة الشرعية"، أو "اللعبة السياسية"، أو "بروتوكولات العمل السياسي و الدبلوماسي." كما يعد من المغامرة و المقامرة بالعمل الإسلامي أن نفتح الباب لكل من هب و دب ليقود آلة الإصلاح السياسي دون سابق عهد في مدرسة النص. فمتى تكون عندنا الجرأة للتصريح أمام الملإ أن إقامة الدولة الإسلامية بأركانها العقدية، و التشريعية، و الأخلاقية من أهدافنا و مساعينا؟ متى نخرج من ضيق الحرب على الفساد في بعده الخبزي، و المالي، و الإداري، و نشهر حربا شاملة و حقيقية في بعدها الأخلاقي و القيمي؟ متى نعلن للناس أن تطهير البلاد من الفواحش كالزنا، و الربا، والخمر، والتبرج، و اللواط، و السفاح...(و نسميها هكذا بمسمياتها النصية، القرآنية و الحديثية) هو من صميم برنامج العمل الإسلامي؛ بل و من أولويات أحزابنا و حكوماتنا؟