احتفاء باليوم العالمي للمسنين، أذاعت القناة المغربية الثانية 2M يوم الأربعاء فاتح أكتوبر 2014 في التاسعة مساء، حلقة جديدة من برنامجها الحواري الأسبوعي "مباشرة معكم"، اختار لها مقدمه الإعلامي المتميز جامع كلحسن، موضوعا بعنوان: "أي مكانة للأشخاص المسنين في المغرب؟". ولإثراء النقاش وتنوير الرأي العام، استدعى له ضيوفا من فعاليات المجتمع، يمثلون وجهات نظر مختلفة. وبدوري ارتأيت الإسهام بورقتي المتواضعة هذه. ذلك أن إثارة ملف بهذا المستوى الضخم، جاءت للتذكير بواقع شريحة اجتماعية، تشكل تراثا إنسانيا راقيا، يقتضي الواجب الوطني والأخلاقي الحفاظ عليه وحسن رعايته، إنها فئة المسنين الذين أفنوا ريعان شبابهم في تنمية المجتمع، وكرسوا حياتهم لخدمة الوطن وأبنائه، فصنعوا الحياة بسواعدهم وعقولهم، في البيوت والحقول والمعامل والمدارس والمستشفيات وكافة المجالات. ومن غير اللائق تهميشهم والتنكر لما قدموه من خدمات جليلة وتضحيات جسام... فهم أشخاص عبرت بهم سفينة العمر وسط أهوال الحياة، ونقلتهم إلى ضفاف الستين عاما فما فوق، ومزيج من الناس انصهروا في بوتقة وحدة اجتماعية غير متجانسة، لتباين مستوياتهم الفكرية وأوضاعهم الاقتصادية والصحية، واختلاف الجنس والوسط الحضري أو القروي، منهم من يتلقى معاشا ومنهم من لا موارد مالية له ولا تأمين صحي، وتحديدا أولئك الذين يعيشون في عزلة تامة بالأحياء الهامشية والقرى النائية... ومن خلال إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط المتواترة، يتضح أنهم في تزايد مطرد، إذ بلغت أعدادهم حوالي أربعة ملايين شخصا أواخر سنة 2013، تمثل النساء أعلى نسبة لكونهن يتمتعن بأمل حياة أكبر، ما يشي بأن المرأة العجوز قد تقضي بقية حياتها وحيدة في ظروف صعبة. ولتأمين لقمة عيشهم، يلجأ غير القادرين على مزاولة نشاط ما إلى امتهان التسول، فيما نسبة عريضة ضمنها أصحاب المعاشات الهزيلة، تضطر إلى ممارسة حرف يدوية أو الاتجار في أشياء بسيطة، والغالبية تشكو على الأقل من مرض مزمن واحد كالسكري وارتفاع ضغط الدم. وما يثير القلق والرعب أن دراسات حديثة، تتحدث عن تخطي المسنين مستقبلا في أفق سنة 2050، لأعداد الأطفال دون سن الخامسة عشرة من عمرهم، الشيء الذي قد يتولد عنه لا محالة تفاقم مشاكلهم وتضاعف معدل معاناتهم، إذا ما استمر إهمالهم وتجاهل أحوالهم... ومن هذا المنطلق، على السيدة بسيمة الحقاوي وزيرة التضامن والأسرة، أن تعي جيدا بأن العبرة ليست بتنظيم حملات موسمية، عبر وصلات إعلامية تلفزيونية أو إذاعية، أو عن طريق لقاءات تحسيسية مباشرة بالمؤسسات التعليمية، وتوزيع الأحلام الوردية، وإنما بمكافحة الفساد المستشري في مراكز الرعاية الاجتماعية، وإطلاق مشاريع تنموية واضحة ذات أبعاد إنسانية، تبرز أهمية حضور المسنين في حياتنا، وتحول الأفكار والشعارات إلى حقائق تلبي حاجياتهم الأساسية، سيما ما يتعلق بالجانبين النفسي والصحي، تيسير ولوجهم مختلف الخدمات ومنحهم أسبقية العلاج. ويستلزم الأمر إشراك الجميع: أسرة، مدرسة، فاعلين جمعويين وحقوقيين وسائر القطاعات الحكومية المعنية، وإحداث دور للتنشيط والترويح عن النفس، بدل تركهم ينغمسون في فضاءات البؤس: "الكارطة" و"الضامة"... وفضلا عما ينص عليه الدستور من رسم سياسات عامة، تهتم بإرساء قواعد العدالة الاجتماعية وضمان العيش الكريم للمواطنين، وبالخصوص الفئات الفقيرة والهشة، فإن رعاية المسنين لم تكن يوما موضع تساؤلات أو مصدر منازعات بين المغاربة، لشهامتهم وتشبثهم بقيم التضامن والتآزر، المنبثقة من نظام التكافل الاجتماعي الموروث عن تعاليم ديننا، وما أوجبه الله تعالى من إنفاق وحسن معاملة الأبوين، كما جاء في كتابه العزيز بسورة العنكبوت: "ووصينا الإنسان بوالديه حسنا". لقد كان المسنون دوما محط تقدير وتوقير، وقبلة للاستفادة والاسترشاد في معالجة المشاكل اليومية والوعكات الصحية... بيد أنه في ظل التحولات المجتمعية الطارئة، وأمام محدودية الإمكانات المادية، أصبحت إشكالية الشيخوخة مطروحة بحدة. وبالنظر إلى غياب مخططات تنموية حقيقية، صار من الصعب على الأبناء التوفيق بين رعاية أبويهم والاهتمام بأولادهم. ولا أدل على ذلك أكثر من أن دراسة دولية أنجزت مؤخرا عن واقع الشيخوخة بالمغرب، اعتمادا على أربعة مؤشرات: تأمين الدخل، الرعاية الصحية، الشغل والتعليم، ثم توفير المناخ الملائم للعيش، خلص على إثرها تقرير البنك الدولي إلى احتلال المغرب من حيث الوضع الصحي والدخل المادي للمسنين، مراتب متدنية ومخجلة: 76 و 71 على التوالي من بين 91 دولة، وتصنيفه ضمن الدول السيئة بالنسبة لعيش المسنين ورعايتهم. فانكشف بذلك الواقع المأساوي لهذه الفئة المغبونة في عهد حكومة السيد بنكيران، بعدما ازدادت الأوضاع ترديا وتأزما، جراء انتهاجها سياسات الارتجال والتفقير والإقصاء، التي لم تعمل سوى على ضرب القدرة الشرائية، ارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي، وتنامي الأمراض المزمنة والعصبية لدى فئة المسنين بوجه خاص... وإذا كان كبار السن فيما سبق يشكلون مصدر إلهام ويحظون بالاحترام، حيث الجدات بحكاياتهن الرائعة، تنمين الحس الأدبي وتساهمن في توسيع خيال الأحفاد، والأجداد بسلطتهم وحكمتهم واتساع دائرة معارفهم، يقوون شخصياتهم ويكسبونهم رجاحة العقل، وإذا كان موت الواحد منهم يجسد خسارة كبرى واحتراق ثروة هائلة، فإنهم اليوم يتعرضون للاستخفاف والمضايقات، وشتى ألوان القهر وأشكال العنف المادي والمعنوي، وبلغت الوقاحة ببعض الأبناء إلى التخلي عن والديهم في أحلك الظروف، وحرمانهم حتى من رؤية أحفادهم، وفي أحسن الأحوال يزج بهم في غياهب دور العجزة، بعد تجريدهم من ممتلكاتهم والحجر على أموالهم، وهكذا باتت فئة عريضة منهم تعيش مشردة على الهامش. ما عاد المسنون قادرين على تحمل المزيد من الإهانات داخل وخارج بيوتهم، وعدم الاكتراث بآرائهم واتهامهم بالخرف، ولا على قضاء بقية أعمارهم في مراكز مهترئة، تفتقر إلى أبسط الخدمات الضرورية، ومن غير زيارات الأهل والأقارب. فهم في أمس الحاجة إلى المتابعة الطبية، التغذية المتوازنة والعناية اللازمة، ومساعدتهم على التكيف مع مرحلة الشيخوخة. والدعم النفسي والطبي وحده يمنحهم السكينة، يقيهم النكسات الصحية ويحد من آثار المضاعفات الفجائية، ولا ينبغي الاستهانة بظهور أعراض مرضية وتغيرات سلوكية، بدعوى أنها أشياء عادية ترافق الإنسان عند تقدمه في العمر. أكيد أن رد الاعتبار للمسنين، يعد معركة مصيرية تستوجب تكثيف الجهود، وتدعو بشدة إلى تدارك ما تبخر من الزمن في التشخيصات غير المجدية. فأوضاعهم المزرية، لا تسمح بالاستمرار في التخبط والترقيع، وصار من المفروض التعجيل بمباشرة العلاج المناسب. وفي هذا الإطار، يستحسن تهييء المناخ الطبيعي لاستقرارهم النفسي بإبقائهم وسط ذويهم، والتزام الدولة بالمساندة المادية للأسر الحاضنة والمعوزة، مادامت ملزمة بتحسين ظروف عيشهم وصون كرامتهم، وبضرورة توفير الشروط الطبيعية لاحترام حقوق الإنسان في مراكز الرعاية الاجتماعية، والسهر على مراقبة سير أعمالها بصرامة حتى تتمكن من أداء مهامها بالشكل الجيد. فلنحافظ على تراثنا الإنساني الرفيع.