يعيش خالد بخان يونس جنوب قطاع غزة، رفقة زوجته ريتاج وابنيه القسام (10 سنوات) وأحمد ياسين (9سنوات)وابنتيه غزة (8سنوات) ويافا (7سنوات).بيتهم بيت صغير به لوحات عليها العلم الفلسطيني وأخرى عليها كلمات في حب الوطن، ولوحات أخرى تخبر عن الأرض المسلوبة والمغتصبة قوة. حلم هذه الأسرة الوحيد والأوحد هو تحرير فلسطين من يد العدو الغاشم الذي يستبيح دماءهم ويقتل أطفالهم ونساءهم وشيوخهم ويدمي قلب أمهاتهم، حلمهم أن تعود الأرض الطاهرة لهم بترابها وزيتونها وخيراتها، حلمهم أن يتنفسوا من هواء أرضهم العليل دون أن تعكره أنفاس الصهاينة الغاشمين، حلمهم أن تزول إسرائيل من الخريطة ومن الكون كله. في هذا اليوم، كانت الأسرة تشاهد برنامجا على القناة الوطنية الفلسطينية يحكي نضال النساء الفلسطينيات، كل حكاية من حكايتهن تحمل بين طياتها الكثير من القواسم المشتركة، كلهن يعبرن عن الحنق على ما ارتكبه الصهاينة بحق الأرض والعرض، كلهن فقدن إما آباءهن أو أزواجهن أو أبناءهن، ولكن رغم ذلك شرارة القوة والإيمان تنبثق من عيونهن، والدموع الحارقة التي تسيل بين الفينة والأخرى خير دليل على شرفهن وسمو أخلاقهن. وبعد نهاية البرنامج طلبت يافا قطعا من العوامة والبلورية والبقلاوة من ريتاج، وبدأ الأطفال حديثا شيقا، إذ أنهم انطلقوا في المشاورات حول اسم أخيهم الجديد الذي سيرى النور بعد يومين على الأرجح. فالقسام يصر على اسم وليد وأحمد ياسين يحب اسم عمرو أما غزة ويافا متفقان على اسم علي. وإذا بريتاج تقول: سنسميه محمد كاسم أخوكم الشهيد... فقال القسام: وماذا لو استشهد كذلك؟ فأجابته ريتاج بكل عزيمة: وماذا لو استشهدنا جميعا من أجل هذه الأرض الطاهرة، فالموت يا أبنائي لا يخيف أهل فلسطين، والشهادة شرف وعزة لهذه الأرض. أخوكم الشهيد محمد، الذي اخترق جسده الصغير صاروخ صهيوني دنس وهو جالس على مقعده في الفصل، لم يمت بل هو حي يرزق في قصر بالجنة ينتظرنا مع النبيئين والصديقين والشهداء، وأنتم يا أطفالي أمل هذه الأرض الطاهرة، أرض فلسطين الحبيبة، أُمُّنَا جميعا ومصدر قوتنا على مر الأيام، أنتم يا أطفالي من سيحرر هذه الأرض ويرجع بسمتها ورونقها على وجنتيها، أنتم يا فلدات كبدي شرف هذه الأمة فكونوا كأهل فلسطين رمز الشجاعة والصمود والعزة، فالصواريخ والأسلحة المتطورة الفتاكة لم ولن تخيفنا، إيماننا بالله أقوى، وثقتنا بقضيتنا أعظم، ونحو تحرير أرضنا سائرون. هم مجموعة من الأقزام الجبناء وزوالهم من هذه الأرض قريب كقرب الشريان للوريد. ولعلمكم أنني كلما حضنتكم يا أطفالي أشتم رائحة الحرية والنصر، رائحة زكية تضخ في عروقي الأمل وترزقني الصبر على فراق أخوالكم الأسرى الأبطال منذ 12 سنة، يعذبون في السجون الإسرائيلية النجسة. ومن ثم ضمت ريتاج أطفالها الأربع وأخذت أياديهم ووضعتها على بطنها لتلامس محمد وقالت: لا عليكم فالنصر قريب وأنا الآن أشعر بنشوته... في هذه الأثناء شعر خالد بالفخر الشديد، لأن زوجته وحبيبته وملهمته ورفيقة دربه وأم أطفاله ومربية الجيل القادم بهذه القوة والإيمان والصمود. كانت البارحة ثكلى غزة واليوم تستعد لوضع طفل جديد للوجود، لا يهمها دموع الأمس بقدر ما تفكر في نصر الغد، تفكر دائما وأبدا في مقاومة العدوان الصهيوني، وإذا كان هذا العدوان الآثم يستهدف دائما الأطفال فالغزيات لهم بالمرصاد. ومن هنا خاطب خالد أبناءه: " يا أطفالي هنيئا لكم بأمكم وأم محمد... أخوكم محمد آت، وسيرى النور قريبا وسنحارب جميعا من أجل تحرير هذه الأرض إلى أن نستنشق جميعا عبير الحرية ونسيم النصر. أنتم تعلمون أن أهلكم، أهل غزةوفلسطين، يسطرون بدماءهم الزكية أروع صفحات المجد، فهم المجاهدون الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، بصمودهم الأسطوري سيفتحون الأبواب التي أغلقها الصهاينة، أبواب الشرعية الدولية والقانون الدولي... يا أبنائي ثقوا بي فنحن على مشارف الفصل الأخير من معركة الاستقلال، وأنتم رفقة أخوكم محمد ستحملون المشعل لمواصلة مشوار الصمود إلى أن تتحرر الأرض، العدو اليوم يترنح بفضل شجاعة ومقاومة وصمود مختلف الفصائل ويعلم أنه مهزوم لا محالة أمام جحافلهم طال الزمان أو قصر ، و..." وفجأة ودون سابق إنذار شعرت ريتاج بآلام المخاض، كانت آلاما قوية تنخر عظامها وتمزق شرايينها، فنهض خالد وسارع رفقة ريتاج للمستشفى الأوروبي الغير البعيد عن المنزل بخان يونس جنوب قطاع غزة. وبعد وصولهم للمستشفى، بدأت أصوات الصواريخ تنطلق من كل مكان، وصوت صفير الإنذار يجوب أنحاء غزة، وكانتريتاج، بين الفينة والأخرى، تصرخ صرخة مدوية تهتز لها بقاع غزة، صرخة عميقة ليست بفعل آلام المخاض وإنما بفعل صوت صفارات الإنذار، فقد كانت خائفة على محمد، خائفة على أمل غزةوفلسطين، خائفة على من سيحمل المشعل ليواصل المشوار، فالأطفال مصدر قوة هذه الأرض الطاهرة الشريفة. نعم، أغارت طائرات الاحتلال الصهيوني فناء المستشفى الأوروبي عمدا، فهي تقصد قتل المدنيين، ما ألحق بها أضرارا جسيمة. في ثواني معدودة تحول المستشفى الكبير إلى أكوام حجر، تفهم من أشلاء أنابيب الأوكسجين وأشلاء الأَسِرَّة وأشلاء البشر المتناثرة هنا وهناك أن الأمر يتعلق بمستشفى كانت تأوي مرضى وحوامل وأطفال وشيوخ وأطباء وممرضين يخدمون الإنسانية. نعم، لقد قتلوا المدنيين عمدا بسبق الإصرار والترصد، لأنهم يودون قتل الروح الفلسطينية، ذبح الأمل الفلسطيني، وخنق الصمود الفلسطيني. لكن هيهات فإن الله أقوى وأعظم، ويمكرونويمكراللهواللهخيرالماكرين...من وسط الركام خرجت ريتاج تحمل ابنها محمد بين يديها، تحمل أمل الغد، تحمل نصر غزة، تحمل حرية فلسطين... نعم ريتاج لم تمت لأن غزة ستنتصر... وَوُلِِدَمحمدلأن غزة ستنتصر... وشعلة الأرض الطاهرة لا زالت مشتعلة ولن تنطفئ لأن غزة ستنتصر... هنا غزة...