عقدت الجمعية المغربية للقانون الدستوري، نهاية الأسبوع الماضي، في الرباط، ندوةً علمية لمناقشة نتائجالانتخابات التشريعية ومسلسل مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة. وتوحي النقاشات الغنية التي شهدتها الندوة، خصوصاً في تزامنها مع سياق تعقّد مسار بناء الأغلبية النيابية الجديدة، بمجموعة من الخلاصات: أولها؛ التقدير الجماعي للمشاركين بصعوبة إنتاج خطاب علمي/ فقهي في علاقةٍ مع التفاعلات المستمرة للأحداث والوقائع، وخصوصاً وسط كثافة الخطابات المنتجة حول "القانون الدستوري" من أوساط حزبية وإعلامية، وهي خطاباتٌ لا تخفي رهاناتها التكتيكية والسياسوية، البعيدة كل البعد عن شرط خطاب المعرفة القانونية. ثانيها؛ يتعلق بالمسافة التي وضعها غالبية المتدخلين في النقاش مع خطاب الأزمة الدستورية، باعتباره من التوصيفات "الدارجة" لتعقد مسار المفاوضات، من أجل تشكيل الأغلبية البرلمانية، ذلك أن هذا الخطاب مجرّد محاولة لتصدير الأزمة إلى حقل القانون الدستوري الذي لايزال قادراً على التأطير المعياري لتطورات الحالة السياسية المغربية. والواقع أن توصيف الأزمة السياسية نفسه لا يبدو مطابقاً للواقع، إذ ستقع الأزمة عندما سيصرح المعنيون المباشرون بذلك (!). ثالثها؛ نهاية أسطورة "الأعمال التحضيرية" لدستور 2011، ذلك أن السياق القانوني والسياسي لمراجعة دستور 1996 ارتبط بممارسة الاختصاصات "التأسيسية" للمؤسسة الملكية في موضوع التعديل الدستوري. لذلك، لم تكن صلاحيات اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، المكونة من خبراء قانونيين ودستوريين مغاربة، أو الآلية الموازية المكونة منمسؤولي الأحزاب والنقابات ذات التمثيلية، لم تكن سوى صلاحيات للاستشارة والدعم، حيث ظل الملك صاحب الكلمة الأخيرة في حسم المشروع النهائي للمراجعة، ما يجعل منطق الأعمال التمهيدية للدستور لا علاقة له بنوعية المسطرة التأسيسية، ولا بطبيعة عمل لجنة المراجعة. رابعها؛ استمرار الموقع المركزي الذي بات يحتله الفصل 47، وخصوصاً فقرته الأولى التي تنص على تعيين الملك رئيس الحكومة من الحزب المتصدّر الانتخابات. وعلى أساس نتائجها، كإحدى البؤر المركزية للنقاش داخل الساحة العمومية، وطبعا داخل الجماعة العلمية، خلال هذه المرحلة السياسية، حيث توزعت الآراء حول هذا الموضوع، إلى اتجاهين: يعتبر الأول أن القراءة الدستورية لمقتضيات هذه الفقرة تجعل المخرج الوحيد المتاح، في حالة العجز هذه عن تشكيل أغلبية نيابية، هو حل مجلس النواب، وتنظيم انتخاباتٍ سابقة لأوانها، مستبعداً بذلك، بكيفيةٍ مطلقةٍ، ليس فقط احتمال اللجوء إلى الحزب الذي حلّ ثانياً، في نتائج الانتخابات، بل أي إمكانية أخرى للتصرّف، بما في ذلك إمكانية تعيين شخص آخر من داخل الحزب السياسي نفسه المتصدّر نتائج انتخابات مجلس النواب، لأن هذا الحل يفترض أن يلجأ الشخص الأول إلى تقديم استقالته، والحال أنه ليس في الدستور ما يُلزمه على الإقدام على خطوةٍ كهذه. وينطلق أصحاب هذه القراءة مما هو موجود في بعض التجارب المقارنة، حيث الاتجاه السائد دستورياً، أو في واقع الممارسة في حالة صمت الدساتير، هو تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدّر نتائج الانتخابات، وأيضا من اتجاه الإرادة المعبر عنها حزبياً ورسمياً في المغرب، خلال مرحلة التحضير لدستور 2011، نحو الربط بين نتائج الانتخابات وتعيين رئيس الحكومة، في استحضار واضح لما حصل سنة 2002، حيث لم يمنع تصدر حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في السنة نفسها من إزاحة قائده من منصب الوزير الأول، وتعيين شخصٍ غير حزبي بدلا عنه. وكان الخطاب الملكي في 9 مارس 2011 قد تحدّث عن "تكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها". وسار في الاتجاه نفسه الخطاب الملكي في 17 يونيو من السنة نفسها، عندما أكّد على "الارتقاء بالمكانة الدستورية للوزير الأول إلى رئيس للحكومة، وللجهاز التنفيذي الذي يتم تعيينه من الحزب الذي تصدر انتخابات مجلس النواب، تجسيداً لانبثاق الحكومة عن الاقتراع العام المباشر". وكذلك فعلت مذكرات أحزاب سياسية عديدة، عرضت على أنظار اللجنة الاستشارية لوضع الدستور، مع بعض التفاوت من مذكّرة إلى أخرى، في بعض التفاصيل المرتبطة بهذا التعيين. ويذهب الاتجاه الثاني إلى أن اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور كانت قد ناقشت فعلاً موضوع تعيين رئيس الحكومة، واهتدت إلى صيغةٍ تقضي بأن يعيّن من "الحزب المتصدّر لانتخابات مجلس النواب"، على أن يقابل هذه الصيغة على مستوى التنصيب القانوني للحكومة من مجلس النواب تصويتٌ سلبي يستدعي رفض (وليس قبول) برنامجها بالأغلبية المطلقة، وفقا للصيغة التي ظلت معتمدةً في ظل دستوري 1992و1996، لكن هذه الصيغة التي كان تبنيها قد جعل من البديهي لدى أعضاء اللجنة، تفادياً لتقييد العملية السياسية لتشكيل الحكومة، أن أولوية (وليست حصرية أو انفراد) الحزب المتصدّر الانتخابات (على أساس أن الملك مقيّد بمقتضى الفصل 47 من الدستور بالوسيلة، وليس بالنتيجة) تفضي، عند فشله نهائياً في إيجاد أغلبيةٍ حكومية، إلى الانتقال إلى الحزب الثاني، أو إلى تحالف أغلبي، قصد الوصول إلى هذا التشكيل، لم تكن نفسها التي جرى اعتمادها في النهاية. حيث أفضى الإخراج النهائي لهذه الفقرة إلى إضافة عبارة "… وعلى أساس نتائجها" التي ورد التأكيد عليها في الخطاب الملكي بتاريخ 9 مارس2011. خامس الخلاصات؛ الخروج العمومي لعدد من أعضاء اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، لمناقشة بعض فصوله ومقتضياته المثيرة للجدل، وتقديم قراءات قد تتطابق، في بعض الحالات، وقد تختلف، في حالات أخرى. ويبدو هذا الأمر طبيعياً، فهؤلاء الأعضاء يملكون اليوم المسافة نفسها مع مجموعة الباحثين الدستوريين، لمناقشة دستور 2011، ومرورهم في تجربة اللجنة، باعتبارهم خبراء مساهمين في استشارة وطنية، لا تمنعهم، مع استحضار الحدود المعقولة لواجب التحفظ في مستويات معينة من المعلومة، من الاستئناف الطبيعي لاجتهاداتهم البحثية، كما أنها لا تمنح لآرائهم العمومية أي سلطة خاصة خارج سلطة الحجج الفقهية التي يقدمونها حول وثيقة يوليو 2011. نقعلا عن العربي الجديد