لا تستهويني موضة الدفاع عن بنكيران، ولا أركب أمواجها إلا على مضض لكثرة المدافعين من كل المشارب، ولا أعتقد أحدا من مهنيي الأعمدة يستهويه الدخول في هذه الزحمة الكبيرة، وحتى الرجل لا ينتظر افتتاحيات تمجده، لكن في مثل هذا الزمن يعد الصمت ضربا من الهدر. وإنه ليؤسفني كما كثيرين مطالعة مقال "خيار التصويت العقابي" لعلي أنوزلا، وإن لم يكن مفاجئا أن يصدر عنه، لكن الزمن لا يحتمل نكث الجراح، ولذلك خرجت أصوات عديدة من جلباب اليسار إلى الجهة الأخرى وانضمت للمدافعة ، ليس لنصرة بنكيران بالنسبة للبعض، ولكن لمواجهة الآلة التحكمية التي تسعى إلى إعادة إنتاج الزمن البصروي بصورته القاتمة. وتكفي البداية من النتيجة لنسف ما بني عليه المقال من أساسه، فالخيار الذي لجأ أنوزلا إلى الدعوة إليه لا يسمى في الأعراف الانتخابية تصويتا عقابيا، إنما نوع من المقاطعة، فأنوزلا هنا يقر بأن المقاطعة بمفهومها الذي يعني عدم الذهاب إلى الصناديق قد فشلت، وأن من كان يستفيد منها هو الفساد والاستبداد، فيذهب إلى خيار التصويت بالبياض، لإعلاء نسب الأوراق الملغاة، كرسالة إلى الجميع، وكأن الأوراق الملغاة ليست تطعيما للفساد والاستبداد !! نستطيع نحن قبيلة الصحافيين الذين تعودنا أنفسنا محشورين في المكاتب المكيفة إطلاق العنان بالوصف، وإطلاق الأحكام على الفاشلين والخاسرين والذين سلموا رقابهم لمديري الإدارات المركزية التي يرأسونها، لأن المقالات لا تخضع للحساب، ولأن اللسان خال من أي عظم، ولأن من يحمل السيف في المعركة ليس كمن يدق الطبول، أو أحرى يستمتع برنينها في الحرب. لقد وضع أنوزلا نفسه في منزلة لا تليق به، حينما بدأ توزيع الأحكام على الوزراء، ينزلهم في المنازل التي يُفصِّلها الوشاة والمشَّائين بالإشاعة، ومن لا يَعْلَقُ في ذهنه غير القفشات ونقاشات ربطات العنق وأشكال أحذية الوزراء وأجسامهم، دونما نُفوذٍ إلى محاسبة الإنجازات والبرامج وبالتالي انتقاد النقوص التي تعتريها. إنني يا زميلي العزيز أناقش من موضع قريب جدا من وزير وصفته بمن سلم رقبته للمديرين والأجهزة يفصلون له القوانين (هكذا)، وهو قول تكاد السقوف تخر من هوله، لأنك من الذين عايشوا من موقعهم كصحافيين وتحديدا كمدير نشر لموقع محترم، كم من العجاج والضوضاء واكبت مناقشات مستفيضة لقوانين صُنعت على طاولة الحوار لا تحتها، بدءا من القوانين التنظيمية وانتهاء بقوانين تعلم أن حزبا سياسيا اسمه الأصالة والمعاصرة وقف في وجهها بشطحات سياسوية سيئة الصيت أدت إلى عرقلة خروجها، ولو كانت من مصلحة الأجهزة كما قلت، لما تعرضت لكل تلك الحواجز. ولا أحتاج تذكيرك أن الرميد أيضا لا يحتاج إلى لسان ثانٍ ولا إلى محام يدافع عنه باعتراف شريحة واسعة، لأنه من قلائل هذا الوطن الذين تسبقهم سمعتهم، وتدافع عنهم نضالاتهم، ولا يمكن التشكيك بوزنهم في الدود عن مصلحة الوطن والمواطن. أما بالعودة إلى صلب الموضوع، فإنني أعيب على زميلي العزيز تشخيص الداء ومطالبته بتحويل نفسه إلى دواء، لأن وجها من المقاطعة التي وصفها أنوزلا بالخيار الثالث، هي التي أفرزت ديمقراطية عرجاء، وحكومات تحمل ضعفها في أرحامها، ولأن تشجيع هذا النوع من العلل في السياسة هو الذي جعلنا ندفع ببنكيران وقبله اليوسفي وآخرين إلى معترك توجد مفاتيحه في يد جهة أخرى غير سلطة الشعب ومن يقوم يختارهم. وبإضعاف هاته الحلقة يجد بنكيران وأمثاله أنفسهم في مسلسل دفاع دائم عن التجربة ومنطلقاتها، ومدافعة مستمرة مع الدسائس والمعاناة التي تفرضها المعادلة الآنفة الذكر، وحاجة دائمة إلى التذكير بأسباب النزول وسياقات التشَكُّل، حتى يستمر الإصلاح في ظل الاستقرار، مهما وصف المتابعون سرعته بالحلزونية، لأنه لم يكن من الممكن، بالنظر إلى تجارب مغايرة في عملية التغيير، أن يكون تمة أحسن مما هو كائن. وإذا كان أنوزلا لا يبحث عن الحلول من خارج اللعبة كما وصفها، فإنه مطالب بالتدقيق في الوصف والتحليل، ليخلص إلى نتائج أخرى غير النتائج المتناقضة التي خرج بها، فأي إنجاز هذا الذي سيحققه المواطن إن كان فقط تصويتا أبيضا يرسل منه رسالة إلى أصحاب اللعبة والمستفيدين منها، وأي رسالة يحتاج إلى إرسالها أكبر من المسيرات والوقفات التي عرفها المغرب في 20 فبراير نفسها، والجواب قطعا أن الزمن لم يعد زمن الرسائل المشفرة، وأن المستفيدين من عوَجِ اللعبة يحتاجون رسائل عملية أبلغها التصويت لخيار الإصلاح. ولا أعتقد أن أنوزلا يغيب عنه منطق الإصلاح القائم على التنقيط في معركته مع الفساد، وأن الضربة القاضية أمر يستحيل الحديث عنه في ذلك، ولذلك كان الأجدر أن تتم الدعوة إلى تدعيم خيار الإصلاح مهما اختلفنا في تقييمه، ومواجهة التحكم وأزلامه، لأن لا أحد في الساحة السياسية يطرح خيارا أكثر عقلانية من هذا الأخير، بعيدا عن محاولة اختزال النقاش في شخص بنكيران، وإن كان لابد من اختزال النقاش حوله وإخوانه، فأحرى من النخبة السياسية والمثقفة أن تعترف له بالخطوات الكبرى في سبيل الانعتاق من رِبْقة الفساد وإسقاط الصنم الذي كانت حكومات بأكملها تلعنه بالليل وتعبده بالنهار، صنم الخوف على الكراسي ومن قول الحقيقة مهما كانت مرة ومؤلمة.