إلى الآن لا نستطيع لا نحن ولا كل الخبراء والمحللين والذين رصدوا إياب نصف النهائي الأول لعصبة أبطال أوروبا بالأليانز أرينا متعاطفين ومتعصبين أو عاشقين لكرة القدم الجميلة، أن نستوعب هذا الذي حدث في الإصطدام التاريخي بين بايرن ميونيخ وريال مدريد، قد نملك تفسيرات لهذه المحرقة الغريبة والرهيبة، ولكن ليس بيننا من منع عن نفسه الدهشة ولا الشعور بالحسرة، فما وقع مساء يوم الثلاثاء هو زلزال بدرجة عالية جدا في سلم الصدمة ببعديها، أن يفوز ريال مدريد برباعية نظيفة في ملعب توقعه كارل هاينز رومنيغي رئيس البايرن أن يكون جحيما لملوك الريال، أن يسقط البافاريون بتلك الطريقة المشينة في ليلة ظنوها ليلة حلم ونعيم، شيء لا يصدقه العقل وأتحدى أن يكون هناك من تكهن بحدوثه. قبل سنة من الآن بالتمام والكمال كان بايرن ميونيخ يعلن نفسه فارسا جديدا لكرة القدم الفاتنة والواقعية والجالبة للألقاب عندما نصب في الأليانز أرينا بميونيخ وفي النيو كامب ببرشلونة مقصلة تكتيكية شنقت بصورة جالبة للشفقة «التيكي تاكا» الكاتالونية، فقد توصل البايرن إلى هزم برشلونة بسباعية نظيفة ذهابا وإيابا ومن تم عبر إلى نهائي أمجد الكؤوس القارية ليضع اليد أخيرا على الكأس ذي الأذنين الطويلتين ويعلن سيدا على أندية أوروبا ثم العالم عندما تجاوز دورتموند الألماني بالملعب الأسطوري ويمبلي في النهائي الأوروبي والرجاء البيضاوي في نهائي المونديال، ورأى قياصرة البايرن أن التعاقد مع بيب غوارديولا الذي فتنت فلسفته كل العالم وهي تقود برشلونة إلى صنع الإعجاز الذي نعرف، يمكن أن يمتع أسلوب لعب البايرن الذي بلغ مرحلة متقدمة من المناعة مع يوب هاينكس مزيدا من التحصن، لتصبح المنظومة التكتيكية مستعصية على كل الخصوم مهما بلغ أداؤهم الجماعي من نجاعة. سنة إذا بعد هذا الميلاد الرائع لبايرن ميونيخ الفريق المطحنة يأتي السقوط الشنيع، فما شاهدناه في الأليانز أرينا مساء الثلاثاء الماضي كان نسخة مشابهة تقريبا لما كان يوم أسقط البافاريون برشلونة في الدور نصف النهائي، نفس الموقعة ونفس الأسلحة ونفس النهاية الحزينة، فإن كان ما شاهدناه من البايرن هو «التيكي تاكا» باللغة الجرمانية فقد كان ذلك موتا ثانيا ل «التيكي تاكا» وإن كان ما رصدناه هو تعلق بالكرة القائمة أساسا على الإستحواذ، فما شاهدناه بالأليانز أرينا كان فعلا إعلانا عن إفلاس هذا المعتقد، فلا ملك فريق الكرة ولا سحق الإحصائيات التي نعرف من حيث نسبة الإمتلاك ومن حيث التمريرات الناجحة ومن حيث الهجمات المنظمة إذا كان مرتد أو مرتدان سيعطيانه الأهداف والتفوق. بعد مباراة البرنابيو التي شهدت سقوط البايرن أمام ريال مدريد قبل أسبوع بهدف بنزيمة، طرح القيصر فرانز بيكنباور سؤالا إستنكاريا: بماذا تنفع النسبة العالية لامتلاك الكرة إذا كان هناك عجز عن التهديف وإذا كان هناك تأخر بهدف وإذا كان للفريق المنافس فرص واضحة للتهديف كادت تجعل الخسارة كبيرة؟ كان سؤال بيكنباور الإستنكاري الذي يبطن رفضا مطلقا للمنحى التكتيكي الذي يأخذه البايرن مع غوارديولا إمتدادا لما كان قد قاله قبل نصف نهائي عصبة الأبطال عندما لمس النحث الغريب الذي يمارسه غوارديولا على أسلوب لعب البايرن، فقال: «لا نريد أن نشبه برشلونة، لا نريد أن يجلب أسلوب لعب البايرن الملل للجماهير ولا نريد أن تضيع هويتنا». إزاء هذا النقد الموجه علنا لفلسفة غوارديولا والذي يرجح فرضية أن بيكنباور قد تحفظ على جلب صانع أمجاد برشلونة للبايرن، كان على صانع «التيكي تاكا» أن يدافع عن فلسفته وأن يبدي مقاومة لكل ما يمكن أن ينسف بداخله ما كان على الدوام مؤمنا به، وهو أن ينطلق في بناء فلسفة اللعب من حتمية امتلاك الكرة والضغط العالي لإبقاء الخصم متكوما في منطقته، في حالة دفاع دائمة ومحاولة إرباك منظومته الدفاعية مهما كانت متمنعة بالإختراقات وبالخلق المستمر للحلول الهجومية، إلا أنه مع هذا الذي حدث بالبرنابيو في مباراة الذهاب والريال يتقدم بهدف بنزيمة برغم نسبته الضعيفة في امتلاك الكرة، وأمام النقد الرهيب الذي ووجه به غوارديولا من الصحافة الألمانية ومن كبير قياصرة البايرن، كان بيب أمام خيارين إثنين أحلاهما مر، إما أن يصمد أمام غارات النقد ويتمسك بفلسفته ولا يحيد عنها مهما كلفه ذلك من ثمن، وإما أن يعدل المنظومة بالشكل الذي يلينها ويتجاوز بها عتبة اليأس والشيخوخة والعجز، ويحرص على أن يكون التكييف مستوحى من القوة الضاربة لريال مدريد الذي أظهر مبدئيا قدرة رهيبة على أن يكيف لعبه بالطريقة التي تسمح له بتطويع ومقاومة بل والإجهاز على كل المنظومات التكتيكية حتى لو كانت «التيكي تاكا» بدليل ما فعله في نهائي كأس ملك إسبانيا مع الغريم برشلونة عندما نجح في ربح كل النزالات التكتيكية الجماعية والفردية وعندما قدم للأمانة مجسما للكرة الواقعية التي تحضر كل مرة لتجهز على الوجه الأسطوري لمنظومات تكتيكية توصف أحيانا بالمنظومات الثورية. مؤسف أن يكون غوارديولا قد خسر الخيارين معا، وما خسرهما إلا لأنه أساء التوقع، فبينما ساد لديه الإعتقاد أن ريال مدريد سيأتي إلى ميونيخ ليفعل بالتمام والكمال ما فعله بمعقله بالبرنابيو خلال لقاء الذهاب، أن يكون مدافعا ومتكوما في منطقته، صابرا على كل نوبات الضغط الجارف وقانعا بما يناله من كرات يحولها بعد ذلك إلى قذائف من نار يوجهها كالحمم لمرمى نويير حارس الباييرن، إذا بكارلو أنشيلوتي يعود مطمئنا لا مكرها إلى منظومته 433 بإشراك ثلاثة لاعبين ذوي طابع هجومي (رونالدو، بنزيمة وغاريث بيل) وإذا به يدخل المباراة من البداية مهاجما لا مدافعا لينجح بنسبة توفيق عالية في تسجيل هدفين لراموس في أقل من 20 دقيقة لتصبح المهمة شبه مستحيلة على البايرن، فعندما يفرض الأمر تسجيل أربعة أهداف، وعندما يكون الفريق المنافس متمتعا بقدر عال من الأريحية والهدوء والوثوق بالقدرات، يصبح وصول البايرن إلى النهائي الثالث على التوالي أشبه بالمعجزة، وقد كان من المستحيل أن تحدث المعجزة، فقد سقط البايرن على أرضه برباعية قاتلة، خسر لمباراتين متتاليتين في العصبة الأوروبية من دون أن يسجل أي هدف هو من حطم هذا الموسم كل الأرقام وغادر المنافسة التي هو بطل نسختها الماضية بأفدح وأفظع صورة، ليكون الجحيم الذي توقع رومنيغي أن ينسف الريال بالأليانز أرينا قد أحرق البايرن نفسه وأحرق «التيكي تاكا» في نسختها الألمانية. هل بعد هذا الذي شاهدناه من ريال مدريد في مباراة ميونيخ التاريخية، يمكن أن نقول بوصول الملكي فريق القرن بأوروبا إلى النجمة الأوروبية العاشرة؟ هناك في ملعب النور بلشبونة سيكون على ملوك الريال أن يبرمجوا ليلة الرابع والعشرين من ماي نظاما تكتيكيا جديدا يقودهم رأسا إلى الجلوس مجددا على عرش أوروبا وإلى القبض على النجمة العاشرة التي كانت لهم منذ أربع سنوات مصدر هوس.. هناك في ملعب النور ستكون للحكاية خاتمة مشوقة.