وراء سحنات الوجه الحادة والتضاريس الوعرة، والسماء المتجهمة بغيمات رمادية، ينطلق كالضوء ذاك الألق الإنساني في باتريس كارتيرون، استمعت إليه قبل مبارة السوبر فشعرت وكأنه سندان من نار، رجل تسحبه المشاعر إلى مدن غائرة لا نكاد نجد لها حدودا، ووجدته بعد المباراة مثل الأرض التي ترقص فرحا بالإرتواء وبهبة السماء، أطلت منه ابتسامة على استيحاء وانفرجت الأسارير وكأني بكارتيرون قد قبض على النيزك الأول، برغم ما هو مودع في عباءته من ألقاب. كان للسوبر الإفريقي أمام منافس بقيمة الترجي طعم متفرد، فكارتيرون الذي تجرع الإقصاء من دور مجموعات كأس الكونفدرالية، كان بحاجة لما يشد عضده ويحمي ظهره ويبرهن على أن الرجاء عندما اختاره بديلا لغاريدو، لم يختر الرجل غير المناسب. عندما التقيت كارتيرون بعد التتويج بلقب السوبر وقد هدأت نسبيا فورة المشاعر، وجدت نفسي أمام مدرب ملم بكل أشيائه، يملك خارطة سفر وزادا فنيا يساعده على تحمل كل تحديات السفر، تعالوا لتكتشفوا هذه الملامح القوية في شخصية كارتيرون من خلال هذا الحوار: المنتخب: غير مشاعر الفرح والسعادة التي يجلبها في العادة الفوز بأي لقب للمدرب، ماذا يمثل لك أنت شخصيا، هذا التتويج مع الرجاء بكأس السوبر؟ كارتيرون: يمثل لي أشياء كثيرة، منها أن كرة القدم تتحقق فيها نسبة كبيرة من العدالة، فالرجاء استحق هذا اللقب بحكم أنه كان في المباراة أمام الترجي الأفضل على كافة المستويات، البدنية والفنية والتكتيكية وحتى الذهنية، وإذا ما كانت المباريات المغاربية تلعب في العادة على جزئيات ففريقي نجح في حسم هذه الجزئيات لصالحه. ثم إنني كنت في وضعية تحتم علي أن أحقق لهذا الفريق ما يمكن أن يجدد ثقته بقدراته، وأن ينهض به مجددا بعد المطبات التي مر منها. واللقب في واقع الحال هو مكافأة لا تقدر بثمن، إنه مكافأة للتضحيات التي بذلناها جميعا. بهذه الأسلحة هزمنا الترجي المنتخب: ما هو أكثر شيء أسعدك في هذا التتويج؟ كارتيرون: هو أنني نجحت في إهداء الرجاء ثاني سوبر إفريقي في تاريخه، وأيضا كون كرة القدم المغربية احتفظت بهذه الكأس بعد أن فازت بها الوداد العام الماضي، ألم تلاحظ أن الكأس مرت من حي لأخر بمدينة الدارالبيضاء (ضاحكا). ثم إنني سعيد كون جماهيرنا العظيمة بخاصة التي أسعفتها الظروف وحضرت معنا إلى الدوحة، أو تلك المقيمة بقطر، عاشت لحظات لا تنسى بعد الذي شاهدته في المباراة وكانت فخورة به المنتخب: لنعد إلى المباراة، هل جاءت بالسيناريو الذي توقعته؟ كارتيرون: في أي مباراة يتوقع المدرب سيناريوهات وليس سيناريو واحد، إلا أن هناك شيئا ثابتا هو أنك ستلعب بذات الهوية التكتيكية التي هضمها لاعبوك. قرأت جيدا أسلوب لعب الترجي الرياضي، ووقفت على نقاط قوته وضعفه، ووجدت أن الفوز عليه لا يمر إلا من شيء واحد، هو أن نكون متحفزين ذهنيا، وأن نكون متحضرين بدنيا ومستعدين لأن نخوض معارك ضارية على مستوى وسط الميدان، وعلى الخصوص أن نلعب بخطوط مترابطة. المنتخب: عندما سئلت قبل المباراة عن الأسلحة التكتيكية التي ستلجأ إليها، قلت أنها موجودة وستمكن منها اللاعبين، ما هي تلك الأسلحة؟ كارتيرون: أنا أنطلق من أن الترجي بشكله الحالي هو من أفضل الأندية الإفريقية، ومساره في عصبة الأبطال التي توج بلقبها شاهد على ذلك، ومن أن الفريق الذي يأتي للسوبر الإفريقي من منافسة كأس الكونفدرالية ينظر له في العادة على أنه الحلقة الأضعف قياسا بالمتوج بكأس العصبة، ما يعني أن هناك نوعا من المفاضلة التي تحدث فارقا على المنظور الذهني للمباراة. كنت أعرف أن فريقي سيخوض المباراة 51، بمجموعة مقلصة ومحدودة جدا، لذا حاولت أن ألعب أولا على سلاح السرعة في الإنتقال من الحالة الدفاعية إلى الحالة الهجومية، مع ما يتيحه ذلك من فرص لضرب العمق الدفاعي للترجي، وحاولت ثانيا أن أربط اللاعبين ربطا صارما بمستلزماتها التكتيكية والفنية، ومنها ربح الثنائيات والإلتحامات والسيطرة على وسط الميدان وإحكام الرقابة على مستوى الدفاع حتى لا نترك لهم مساحات. المنتخب: ونجحت الخطة فعلا؟ كارتيرون: نعم، نجحت بدرجة عالية، ولو أننا في بعض الأحيان سقطنا في بعض الشوائب التي منها إضاعة بعض الكرات وعدم إخراج الكرة من المنطقة بشكل سلس، ولكنني ألتمس العذر في ذلك للاعبين، لأنهم احتاجوا في هذه المباراة إلى تحفيز ذهني ذاتي لكي يقدموا وبسخاء المجهود البدني الكبير، والذي وصل حد الإستنزاف. هزمنا العياء قبل الترجي المنتخب: قررت أن تلعب المباراة بشاكلة 4-3-3، وفضلت في ذلك الوردي على مابيدي في الوسط الدفاعي، وبنحليب على محسن ياجور كرأس حربة، هل ما استدعى هذا التحوير البسيط هو يقينك بأن المباراة ستكون مشتعلة بدنيا وتكتيكيا؟ كارتيرون: قلت لك أننا جئنا لهذه المباراة وهي مهمة لنا بل واستراتيجية، بكثير من العلامات الدالة على الإرهاق والعياء، لذلك حاولت اللعب على الطراوة البدنية، وأظن أن الشاب الوردي قدم مباراة نموذجية واشتغل كثيرا مع الشاكير في منطقة لعب جد حساسة، كما أن بنحليب نجح في خلق نوع من الأفضلية هجوميا مع حدراف ورحيمي بمساندة كبيرة من الحافيظي. المنتخب: ترك الرجاء للترجي العشر دقائق الأولى من الجولة الأولى وبعدها أمسك بالمباراة، هل كان ذلك مقصودا؟ كارتيرون: لا أستطيع أن أقول بأن ذلك كان مقصودا، الترجي سعى إلى فرض شخصيته، لربما ينجح في جعلنا في وضع متأخر، أي أن نلعب بشكل دفاعي، غير أننا لم ننسق وراء ذلك، وسرعان ما كشفنا له عن نوايانا، ونجحنا بفضل السرعة في الوصول قبله لتهديد المرمى، في تلك اللحظة شعر بأنه تحت التهديد وأن بمقدورنا أن نضرب منظومته الدفاعية في أي وقت. المنتخب: هذا ما شاهدناه بالفعل، فالرجاء قبل أن يسجل عبد الإله الحافيظي واحدا من الأهداف الجميلة من بناء هجومي جيد، أهدر فرصتين سانحتين للتسجيل، ألم يخفك ذلك؟ كارتيرون: ما يخيف المدربين في العادة هو أن لا يتوصل لاعبوهم إلى صناعة الفرص، كان مطمئنا للغاية، أن اللاعبين نجحوا في اختراق وضرب المنظومة الدفاعية للترجي أكثر من مرة، وقد كان هذا دليلا على نجاح المقاربة التكتيكية التي اعتمدناها للمباراة. المنتخب: ولكن ليس إلى حد تفويت فرصة الخروج من الشوط الأول بتقدم كبير؟ كارتيرون: أنا معك، ولكن هذا الأمر يحدث لكل الأندية، فأي فريق لا يستطيع أن يسجل من كل الفرص التي تسنح له في المباراة، وقد أكدت لك بأن الأفضل أن تصنع الكثير من الفرص وتسجل القليل من الأهداف على أن لا تصنعها أصلا، هذا بالفعل ما يخيف أي مدرب أي أن تكون لفريقه طاقة هجومية سلبية، والأمر لا ينطبق علينا بدليل أننا سجلنا الكثير من الأهداف في المباريات الأخيرة، فغير الهدفين في مرمى الترجي سجلنا سبعة أهداف في مرمى النهضة البركانية وأربعة أهداف في مرمى أوطوهو دويو. السوبر لعبناه وفزنا به المنتخب: عودة الترجي في النتيجة بتوقيعه هدف التعادل، هل أربك خطتك؟ كارتيرون: أبدا، كنت واثقا أننا اخترنا منظومة اللعب التي تعطينا الأفضلية، دارت برأسي الكثير من الأفكار وكنت مستعدا لتنفيذ بعض منها قبل أن يعيد لنا الهدف الثاني التفوق، ومعه شعرت أن الترجي لن يتمكن هذه المرة من التعديل. المنتخب: ولكنك في الثلث الأخير من الشوط الثاني ستفقد البوصلة ورجل الحلول السحرية عبد الإله الحافيظي يصاب، هل أزعجتك إصابته وخروجه من المباراة؟ كارتيرون: الحافيظي لاعب مهاري يتمنى أي مدرب أن يكون باستمرار على أرضية الملعب، إنه يملك القدرة على صناعة الحلول في أصعب فترات المباراة، بالطبع خروجه ألمني، لقد شعرت بأنني جردت من أحد الأسلحة. ولكن في النهاية المعارك الكروية تكسب بالجماعية، واللاعبون استبسلوا في الربع الأخير من زمن المباراة لكي يبقوا على الفوز. المنتخب: هناك من يقولون أن المباريات النهائية تكسب ولا تلعب، أنا أرى أن الرجاء ما ربح المباراة إلا لأنه لعبها بطريقة رائعة، أو على الأقل كان فيها الطرف الأفضل؟ كارتيرون: هذه تعبيرات رائجة في معجم كرة القدم، ولكن في النهاية عليك أن تلعب المباراة لكي تفوز بها، ربما القصد هو أن أي فريق عندما يصل لمباراة نهائية، لابد وأن يسخر كل شيء من أجل الفوز بها، فالتاريخ عادة يحتفظ بمن توج باللقب لا من لعب بطريقة جميلة وخسر.