لقد ساد لدى عدد من النقاد القدماء أن الشعر -في الغالب- إبداع منفلت من ضوابط الدين ورقابة الشريعة، وأنه حتى في الحالات التي يخضع فيها لهذه الضوابط؛ فإنه يضعف ويلين[1]، ويفقد جودته وجماله الفني. وهذا ما نجده مثلا في إشارات كثيرة كتلك التي وصلتنا عن الأصمعي في قوله: "إن الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل في الخير ضعف ولان.." ويقول أيضاً "هذا حسان بن ثابت فحل من فحول الجاهلية فلما جاء الإسلام سقط شعره"[2]، وقول القائل "أعذب الشعر أكذبه"[3]. ورغم تصدي مجموعة من النقاد الكبار لهذه الفكرة ومواجهتها غير ما مرة بالحجة والبرهان[4]؛ فإنها ظلت تتنامى لتفرض نفسها على عدد غير يسير من متذوقي الأدب والمبدعين الذين ترسخ في أذهانهم أن الدين الإسلامي شكل عائقا ومؤثرا سلبيا على أزرى بالإبداع الشعري، ووجهّه في إطار ضيق ومنعه من التجوال في فنون الكلام، وحدائق المعاني. ومن هنا بدأ يبرز الفصل بين الشعر الذي يتطرق إلى كل الأغراض والمناحي، وذلك الذي يقصر فيه الكلام على الموضوع الديني لا يحيد عنه. واعتبر الأول شعرا جيدا خالصا لا يأبه فيه صاحبه برقابة أو ضغط سوى دافع الإتقان والتفنن في إخراج الكلام الرائق الذي يخلب الألباب والعقول. بينما عدوا الثاني نوعا من الشعر يأتي في المرتبة الثانية يكثر فيه العسف والتكلف، ولا يرقى بحال من الأحوال إلى مصاف الشعر الخالص. لكن مثل هذه النظرة لا تثبت أمام الفحص والنقد الدقيق، فهناك من المزالق والثغرات ما يبعدها عن الصحة ويدفع بها إلى هامش الخطإ والمراوغة؛ فالشعر والدين الإسلامي لم يكونا أبدا على طرفي نقيض أو منفصلين انفصالا تاما. فقد جعل القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف الأدب العربي أكثر جمالية، إذ أمده بدفقات مستمرة من البلاغة الربانية والبيان المحمدي، وهذا هو ما" أقام عمود الأدب العربي منذ ظهوره؛ فعلى هديه (القرآن الكريم) أخذ الخطباء والكتاب والشعراء يصوغون آثارهم الأدبية مهتدين بديباجته الكريمة، وحسن مخارج الحروف فيه، ودقة الكلمات في موضعها من العبارات بحيث تحيط بمعناها، وبحيث تجلي عن مغزاها، مع الرصانة والحلاوة"[5]، فلم يضعف الإبداع الشعري المتميز، وإنما في الغالب كان يقوّيه ويزيد من إشعاعاته الجمالية والفنية. وفي الوقوف عند محطات زمنية وفنية من تاريخ الأدب العربي عامة، والشعر خاصة بما فرضه من ظواهر ما يؤكد ذلك؛ فلقد كان للإسلام باعتباره منظومة من القيم تأثيرا كبيرا على الشعراء وعلى إبداعاتهم التي انعكست على صفحته مظاهر هذا التشرب العميق الذي بمبادئه وقيمه من خلال نصوص واتجاهات شعرية عديدة عُدّ غرض الزهديات أبرزها؛ إذ تولد اتجاه شعري رقيق لطيف المدخل سعى التعبير عن معاني الزهد في الحياة الدنيا، ومجاهدة النفس من أجل الفوز بالدار الآخرة، لعل هذه النزعة الزهدية في الشعر امتدت لتشمل إنتاج عدد كبير من الشعراء حتى الذين جاهروا منهم بالمعصية، وسلكوا سبيل المجون واللهو. وبذلك انقسم الشعراء في الزهد إلى ثلاث فئات: فئة وقفت نصوصها كلها أو جلها للزهد فكانت القاعدة في النص الشعري عندهم التغني بالزهد وما فيه من دعوة للتقشف والابتعاد عن ملاذ الحية ومشاغلها، وفئة أخرى غلب على نتاجها الفني الطابع الدنيوي في مختلف أشكاله حتى المتطرفة منها كالغزل ووصف الخمر لكنها ومع ذلك أنتجت نصوصا هدية في غاية الرقة ورهافة الحس. بيمنا فئة ثالثة حضر فيها الزهد في النص في ارتباط بمناسبة خاصة كالاحتضار أو شدة المرض. وفي كل هذه الفئات يبقى الثابت الإحساس الجمالي العالي الممزوج بصدق العاطفة وفورانها المؤثر في المتلقي المتجدد على مر العصور بما فيها من إشراقات روح الإسلام و جوهره. يتبع في العدد المقبل.. ------------------------------------------- 1. انظر كتاب الإسلام والشعر، سامي مكي العاني، عالم المعرفة، عدد: 66، أغسطس 1996، ص: 15. 2. الشعر والشعراء، ابن قتيبة تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، ص: 324. 3. أسرار البلاغة، الإمام عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمود محمد شاكر، دار المدني، القاهرة، (د.ت)، ص: 272. 4. انظر باب في الرد على من يكره الشعر في كتاب العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، أبو الحسن بن رشيق القيرواني، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، 2007، ص: 18-21. 5. تاريخ الأدب العربي الجزء الثاني العصر الإسلامي، شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السادسة، ص: 34.