كنت قد تطرقت في حلقة ماضية لشخصية أديب بارع عاش خلال العصر الموحدي هو أبو المُطرِّف بن عَميرة (العدد 23 من جريدة ميثاق الرابطة)، ونتعرف من خلال شخصية هذه المقالة على مظهر آخر من مظاهر التفوق الأدبي الذي عرفه المغرب من خلال الكتابات النثرية والشعرية العميقة التي بقيت متناثرة في المصادر التي حُقّق ونشر بعضها ولازال الكثير منها ينتظر أن يزال عنه الغبار.. يتعلق الأمر بالكاتب والأديب الكبير أبو جعفر بن عطية المراكشي... هو أبو جعفر أحمد بن جعفر بن عطية القضاعي من أهل مراكش، وأصله من طرطوشة بالأندلس، قال العلامة المستعرب ليفي بروفنصال في مقدمة كتاب "مجموع رسائل موحدية" (المطبعة الاقتصادية، 1941): "ترجم لأبي جعفر بن عطية عدد من المؤلفين كعبد الواحد المراكشي في "المعجب"، وابن الأبّار في "الحلة السّيراء"، وابن الخطيب في "الإحاطة"، والمَقّري في "نفح الطيب"، ولد في مراكش سنة 517 ه، وكتب للسلطانين المرابطيين علي بن يوسف بن تاشفين وابنه تاشفين، وكان على ما ذكره ابن الخطيب، أحظى كُتابِهم.. وتصفه "الإحاطة" ككاتب بليغ سهل المأخذ منقاد القريحة سيّال الطبع رائق الخط.. وبعد أن أدرك المحل الأبرز عند مولاه جرت له محنة وقتل هو وأخوه أبو عقيل في أواخر سنة 553 ه." ويقول صاحب "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" (ص140-141): "كان قبل اتصاله بعبد المؤمن وفي الدولة اللمتونية، يكتب لعلي بن يوسف في آخر أيامه، وكتب عن تاشفين بن علي بن يوسف؛ فلما انقرض أمرهم هرب وغيّر هيئته وتشبه بالجند، وكان محسنا للرمي، وكان في الجند الذين خرجوا إلى سوس لقتال ثائر قام هناك، كان الأمير على هذا الجند أبو حفص عمر إينتي، فلما انهزم أصحاب ذلك الثائر وقتل هو وانفضّت تلك الجموع، طلب أبو حفص من يكتب عنه صورة هذه الكائنة إلى الموحدين الذين بمراكش، فدُلَّ على أبي جعفر هذا ودُلّ على مكانه، فاستدعاه وكتب عنه إلى الموحدين رسالة في شرح الحال أجاد في أكثرها ما شاء.. فلما بلغت الرسالة عبد المؤمن استحسنها واستدعى أبا جعفر هذا واستكتبه..، وأسند إليه وزارته، فنهض بأعبائها على أحسن وجه، وحسنت سيرته، وشاع فضله بين الناس... يضيف عبد الواحد المراكشي في "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" (ص140): "واستوزر أبا جعفر أحمد بن عطية، فجمع بين الوزارة والكتابة، فهو معدود في الكتاب والوزراء، فلم يزل عبد المؤمن يجمعهما له إلى أن افتتحوا بجاية.. واستمرت وزارة أبي جعفر إلى أن قتله عبد المؤمن سنة 553ه، واستصفى أمواله". يقول العلامة المرحوم محمد المنّوني في كتابه: "العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين" (الطبعة الثانية، الرباط - 1977) عن أبي جعفر بن عطية أنه: "من أبلغ أهل زمانه كتابة وشعرا ذكره في "المعجب"، وفي "النفح"، وقد أتبث له في "القرطاس" والنفح فصولا من الرسالة النثرية الشعرية التي يستعطف بها عبد المؤمن ويطلب عفوه، كما أتبث له المصدر الثاني فصولا من الرسالة التي كتبها عن أبي حفص عمر إينتي إلى الموحدين بمراكش؛ يخبرهم عن صورة موقعة حربية انتصر فيها أبو حفص المذكور".. وإبرازا للمكانة العلمية والأدبية للكاتب أبي جعفر بن عطية، أقتطف بعض الفقرات من بعض رسائل قام بنشرها الأستاذ ليفي بروفنصال ضمن "مجموع رسائل موحدية"، من ذلك رسالة بعث بها عبد المؤمن بن علي الكومي إلى الطلبة الذين بسبتة، يقول أبو جعفر بن عطية، كاتب الرسالة: "وقد وُصِّلنا -أكرمكم الله- بمخاطبتكم الأثيرة، فوقفنا على ما سنى الله تعالى لصاحبكم أبي محمد عبد الله بن سليمان وأصحابه النافذين معه في القطائع -عمّرها الله- حين ركبوا ثبج البحر غزاة في سبيل الله، مستمطرين من ماء الرحمة على متون تلك الأمواه. فكان من تسهيل الله لهم ما كان، وظهر صنعه الكريم لأوليائه وبان؛ واجتازوا بأهل مالقة والمُنكَّب فأظهروا لهم من أحوال الامتناع، والاستعداد للدفاع، ما أظهروا، وأبدوا سلاحهم مجاهدين وشمّروا. ثم استخاروا الله على قصد ألمرية فألْفَوها قد أخذت بإِشعار أولئك الأشقياء حِذرها، وجمعت على دفع ما لا يدافع من أمر الله أمرها. فصبّحها أولياء الله بكرة باكرتها بحتفها، وقطعت دون المدافعة ما قطعته من سيوفها وأكفها..". ولا يخفى أيها القارئ الكريم ما في هذه الرسالة من معلومات تاريخية وسياسية وميدانية تغني لاشك الكتابة التاريخية باعتبارها وثائق مكثّفة ومتعيِّنة في الزمان والمكان، ومعلومة المصدر والمقصد والمآل، لكن يبقى هذا الجنس الأدبي في رأيي غير مستَثمر بما فيه الكفاية في إعادة كتابة تاريخ الدولة الموحدية بالمغرب.. ولا ننسى هنا أن نثني على جهود العلامة ليفي بروفنصال الذي بعث "مجموع رسائل موحدية" من مرقدها مقدما بذلك خدمة كبيرة للبحث العلمي حول تاريخ هذا البلد الكريم... وفي رسالة أخرى بعث بها عبد المؤمن بن علي إلى الشيخ أبي فلان وجماعة المشيخة بقرطبة، يقول كاتبها أبو جعفر بن عطية: "أما بعد، فإنا نحمد إليكم الله الذي يصل الفتوح لأوليائه بفتوح، ويلهم الراشدين من عباده إلى كل رأي نجيح، ويقرب للمتقربين بالتوبة النصوح، كل آمّ شاسع ومأمول نزوح، ويشفي بدواء الإقالة، من مرض البطالة، كل كبِد ذات كبَد، وقريحة ذات قروح... من حضرة مراكش -حرسها الله- وبفضله جلت قدرته ما استفاض ببركة هذا الأمر المبارك من نور قدسي، وخير معنوي وحيّ، وما قربه بيُمنه من أمل قصي، ولينه من شديد قسي، وأسمعه أولياءه من نبأ إنسي، حتى انتشرت في الآفاق مطارح أشعته، وابتدرت عشائر الإيمان ما ابتدرته من تعزُّز بعزته الأبدية ومنعته، واستنار شرف سنته الطاهرة وشرعته، وأقبل كل موفق إلى ما وفق له من فيئته إلى الله تعالى ورجعته، واستمسك الراشدون منه بعروة لا تنفصم، واعتصموا بما لا ينجي من دعوته الربانية ويعصم، وخاب عن هذه الرحمة الواسعة الناكص المتأخر والألد الخصم..". ويذكر صاحب "المعجب" (دار الكتب العلمية، 1998، ص 141) أن سبب قتل الكاتب الأديب أبي جعفر بن عطية من طرف الأمير عبد المؤمن بن علي الكومي هو نقل أخبار ذكرت في بلاط الأمير المذكور لصالح يحيى ابن الصحراوية، فارس المرابطين المشهور وصهر أبي جعفر ابن عطية، وكانت النتيجة أن سجن كاتبنا، وبقي في سجنه إلى أن مات.. وفي رواية أخرى أن عبد المؤمن بعدما قصد زيارة تربة المهدي بن تومرت في (تينمل)، استصحب معه أبا جعفر وأخاه أبا عقيل مكبلين ثم قتلهما في الطريق عند عودته إلى مراكش، سنة 553 ه. وهذا مقتطف من رسالة أبي جعفر بن عطية الاستعطافية التي بعث بها لعبد المؤمن بن علي، أوردها أحمد المقري في "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"، وهي تنم عن قوة أدبية وبلاغية لا مراء فيها، مع طغيان أسلوب التورية عليها، لكن العلامة المقري علق عليها -رحمه الله- بقوله: "تغالى فيه فغالته المنِية ولم ينل الأمنية وهذه سنة الله تعالى فيمن لم يحترم جناب الألوهية ولم يحرس لسانه من الوقوع فيما يخدش في وجه فضل الأنبياء على غيرهم، سامحه الله...". (نفح الطيب، 5/184).. يقول أبو جعفر بن عطية في رسالته الاستعطافية -التي أغضبت صاحبنا المقري-: "تالله لو أحاطت بي خطيئةٌ، ولم تنفك نفسي عن الخيرات بطيئةً، حتى سخِرت بمن في الوجود، وأنِفت لآدم من السجود، وقلت إن الله لم يوح في الفلك لنوح، وبَرَيْتُ لقرار ثمود نَبْلاً، وَأَبْرَمْتُ لِحَطَب نار الخليل حبْلاً، وحططت عن يونس شجرة اليقطين، وأوقدتُ مع هامان على الطين، وقبضت قبضةً من الطير من أثر الرسول فنبذتها، وافتريت على العذراء البتول فقذفتُها، وكتبت صحيفة القطيعة بدار النُّدوة، وظاهرت الأحزاب بالقُصوى من العدوة، وذممت كل قُرشي، وأكرمت لأجل وحشى كل حَبشي، وقلت إن بيعة السقيفة لا توجب لإمام خليفة، وشحذت شفْرة غلام المغيرة بن شعبة، واعتقلت من حصار الدار وقتل أشمطها بشعبة، وغادرت الوجه من الهامة خضيباً، وناولت من قرع سِن الخمسين قضيباً، ثم أتيت حضرة المَعصوم لائذاً، وبقبر الإمام المهدي عائذاً لقد آن لمقالتي أن تُسمع، وأن تُغفر لي هذه الخطيئات أجمع، ثم أنشد (النفح، 5/185،186): فعفوا أميرَ المؤمنين فمنْ لنا بحمل قلوبٍ هدَّها الخفقان وكتب أيضا مستعطفا : عطفا علينا أمير المؤمنين فقد بان العزاءُ لفرط البثِّ والحَزَن قد أغْرقَتْنا ذنوبٌ كلها لُجَجٌ وعَطفة منكم أنْجى من السفن وصادفتنا سِهامٌ كلها غَرَضٌ لها ورحْمَتُكم أوقى من الجُنَن هيهات للخطْب أن تسطو حوادثُه بمن أجازته رُحْماكم من المِحن من جاء عندكم يسعى على ثِقة بنصره لم يخَفْ بطشا من الزمن فالثوب يطْهُر بعد الغَسْل من دَرَنٍ والطَّرف ينهض بعد الركض من وسَن أنتم بذلتم حياة الخلقِ كلهم من دون من عليهم ولا ثمن ونحن مِن بعض من أحيت مكارمكم تلك الحياتين من نفس ومن بدن وصِبية كفِراخ الوُرْق من صِغر لم يألفوا النَّوح في فَرْع ولا فنَن قد أوجدَتهم أيادٍ منك سابغة والكل لولاك لم يُوجد ولم يكُن ومما كتبه أبو جعفر بن عطية من السجن: أنوح على نفسي أم أنتظرُ الصفحا فقد آن أن تُنسى الذنوب وأن تُمحى فها أنا في الليل من السخط حائِر ولا أهتدي حتى أرى للرِّضى صُبحا وجاء في بعض الروايات أن عبد المؤمن بن علي امتحن الشعراء بهجو أبي جعفر ابن عطية، فلما أسمعوه ما قالوا، أعرض عنهم، فقال: ذهب ابن عطية، وذهب الأدب معه.. ويظهر أن عائلة ابن عطية المراكشية لم تنجب أبا جعفر الكاتب وحده، بل نجد أخاه أبا عقيل عطية بن عطية يكتب بدوره رسائل للأمير عبد المؤمن بن علي –على خطى أخيه أبي جعفر-، ويبدو أن تمرسه باللغة العربية وأسرارها لا يقل أهمية عن أخيه.. من ذلك رسالة أرسلها عبد المؤمن إلى الطلبة الذين بتلمسان، وهي من إنشاء الكاتب أبي عقيل عطية، أخ صاحبنا أبي جعفر، يقول في الرسالة المنشورة ضمن "مجموع رسائل موحدية" بعناية ليفي بروفنصال (ص 22-23): "أما بعد، فالحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء على العموم والإطلاق، وجمعت عصمته أهل الاجتماع على طاعته والاتفاق، وتمت نعمته تماما على أبلغ وجوه الانتظام والاتساق؛ والصلاة على محمد نبيه المبتعث لتتميم مكارم الأخلاق.. وهذا كتابنا إليكم كتب الله لكم فيما خولكم النماء والزيادة، ومكن في تمكينكم وإصلاح شؤونكم الإنالة والإفادة، وبسط في أرجائكم ومتعلقات رجائكم اليُمن والسعادة من حضرة بجاية -حرسها الله- عن أحوال ترتب صلاحها على أفضل وجوده، وفتوح تتابع افتتاحها في قريب المعمور وبعيده، وبشائر ينزه بشرها وسماحها عن الجري على معتاد الدأب المألوف ومعهوده، وآيات بينات أغنى تخيلها واتضاحها عن كل برهان ووجوده، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها في المستولية محصى العادة ومعدوده. نسأل الله سبحانه وقد بهرت البواطن والظواهر، وعميت الأبصار والبصائر، تعظيم ما نشاهد ونعاين عونا يعين وينهض، وعملا يتخلص بشكر آلائه الباهرة ويمحض، وقوة لا تنتكث بالعجز عن أداء حقوقه ولا تنتفض.. وأن أبا زكرياء يحيى بن العزيز بالله بن المنصور بن الناصر وجميع إخوته وقرابته وخؤوله حين أتاهم الذائد الذي لا يكذب أهلَه، وانتحاهم القائد المبيح وعر المنتحى وسهله، لم يكن لهم بُدّ من التولي عن قرارهم، والتخلي عن أوطانهم وأقطارهم، لأمر قضى الله فيه لهذا الأمر المبارك بخير قضائه، وشأن طوى الخيرة درج تضمُّنه واقتضاءه". أما بعد، فلا تخفى الأهمية التاريخية والأدبية لمثل هذه الرسائل النفيسة التي أوردنا هنا نماذج منها لأبي جعفر بن عطية وأخيه أبي عقيل.. يقول ليفي بروفنصال في مقدمة كتاب "مجموع رسائل موحدية": "أما من الوجهة التاريخية؛ فإنها تعرض لنا بيانا مباشرا دقيقا منظما لأهم الحوادث التي وقعت في أيام الموحدين من تدابير سياسية وإصلاحات اجتماعية وغزوات وانتصارات حربية، وأما من الوجهة الأخرى؛ فإنها ستمكن كل من يدرس تطور الآداب بالديار الغربية الإسلامية من نماذج شتى عن فن الكتابة الرسمية في العهد الموحدي، كما ستأذن له مقارنة تحليلية بينها وبين سائر المنتجات النثرية المسجوعة التي أنشئت في هذا المعنى، لا سيما في دواوين البلاطات الأندلسية والمغربية قبل الموحدين وبعد سقوط دولتهم..". ولا شك كما يقول ليفي بروفنصال أن مثل هذه النصوص وجب إخراجها من زوايا النسيان من أجل الدفاع عن تلك المدنية، والتقدير لمجدها، والرفع لمنارها، والانتصاف لدورها البارز وتأثيرها المكين في نهضة الفكر الإنساني... والله الموفق للخير والمعين عليه.