إن بعض التعاليق الواردة على المقال السابق "أخطاء الآباء..." كانت وراء اختياري لعنوان هذا المقال، وذلك لتوضيح الإشكال الناشئ عن الممارسات التربوية كما هي في الواقع، والتي يغلب عليها طابع التحكم والتضييق على حرية الأبناء، وعن بعض الكتابات التربوية الداعية إلى تحرير التربية من كل الضوابط، والإبقاء – فقط –على الطرق التي تزرع الثقة بين الآباء والأبناء من إطلاق العنان للحرية والثواب، واستبعاد كل ما يخدش هذه الثقة من التقييد والعقاب... وهذا مكمن الإشكال الذي أفرزه اتجاهان تربويان على الأقل هما: الاتجاه الأول: ينطلق من تصور مؤداه: أن التربية الناجحة لا يمكن تجريدها من الإلزامية والضبط والتقييد [1]، ذلك لأن التربية كغيرها من التكاليف، يتوقف إرساء قواعدها وتحقيق أهدافها على الترويض والتعويد لاعتبارات منها: • أن موضوع التربية إنسان، وأن الإنسان ذو طبيعة مزدوجة ومركبة من عنصري الخير والشر، قال الله سبحانه وتعالى: "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها" [سورة الشمس، الآيتان: 7-8]، وتحتاج – في صلاحها – إلى التزكية التي تستحضر معها جملة من دلالات التدخل الخارجي وأدناها التوجيه. • وأنها - أيضا – طبيعة متحدية،لا تقبل التطويع بسهولة، ومن ثم يكون التدخل أمرا لا مناص منه للتقويم والتسديد. الاتجاه الثاني: تكاد تجمع معظم الكتابات التربوية المعاصرة (في العقد الأخير) على أن تربية الإنسان ينبغي أن تكون حرة مطلقة من القيود والضوابط، حتى ينشأ الطفل على الحرية وقوة الإرادة وفتح آفاق الإبداع أمامه، لينمو نموا سليما ومستقلا بعيدا عن الاستنساخ والمثلية للأبوين، لاعتبارات ينطلق منها هذا الاتجاه وفي مقدمتها: • أن الإنسان خلقه الله بيديه الكريمتين على درجة عالية من السواء والقوامة من جهة، قال سبحانه: "لقد خلقنا الاِنسان في أحسن تقويم" [سورة التين، الآية: 4]، وقال أيضا: "الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك" [سورة الانفطار، الآيتان: 7-8]، وأهله لواجب الاستخلاف في الأرض، وزوده بكل المقومات اللازمة لذلك، وما دام الأمر كذلك فالتحكم والتسلط في المجال التربوي جناية على الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها. • أن التجارب العملية والميدانية – خلال حقبة زمنية طويلة – أكدت فشل التربية - بالمعنى الأول – في تحقيق أهدافها؛ أي باعتماد العقاب المادي أو المعنوي في تنشئة الإنسان كقاعدة لها الأولوية في الاعتبار. وفي ظل هذا التعارض بين الاتجاهين الفلسفيين: الفلسفة الطبيعية القديمة التي بدأت مع "جون جاك روسو" في كتابيه [2] وهو اتجاه يدعو إلى الحرية في التربية، ونفس الاتجاه يتبناه الإصلاحيون الجدد [3] في كتاباتهم التربوية انطلاقا من مرجعيتنا الإسلامية ومن التراث الإنساني حيث لا تعارض، حرصا منهم على علاج ما يمكن علاجه من الأزمات التي ضربت الأمة في أخطر مقاتلها، ألا وهي "التربية" حيث نشأت -عن فشلها في الواقع- أزمة كانت مصدرا لكل الأزمات التي أصابت الأمة. وبين الاتجاه الذي بنى رؤيته التربوية انطلاقا من التراث التربوي التقليدي الذي لم يسلم -هو أيضا - من النقد والمؤاخذة في أكثر من جانب. ولكي نخرج من هذا التعارض بنتيجة تخدم الاتجاه الصحيح، وترفع اللبس، ونستطيع استثمارها بالشكل الإيجابي في المجال التربوي تنظيرا وممارسة؛ فإن الواجب يقتضي تحديد معالم مقاربة ذلك الاتجاه من خلال بسط لنظرية الثواب والعقاب في التربية (الحرية والضبط معا) باعتبارهما طريقتين فاعلتين في المربى إيجابا، إذ الناظر بعين العقل، والمتأمل في تراثنا التربوي المستمد من المرجعية الإسلامية يخلص إلى نتيجة مفادها: أن ليس هناك حرية مطلقة من كل الضوابط في تربية الأبناء؛ لأن التربية بذلك المعنى تعني الفوضى التي من شأنها أن تنتج أبناء مدللين متحللين من المسؤولية التي من أجلها خلق الإنسان، كما أن التربية التي يطغى عليها الاستبداد، وتحوطها القيود المكبلة للحرية، أيضا لا تنتج إلا إنتاجا مشوها وضعيفا. فما هي إذن الطرق التربوية الناجحة في إعداد الأبناء لتحمل المسؤولية بنجاح في حياتهم الدينية والدنيوية، والتي تستمد شرعيتها من الوحي ومن الفكر التربوي الأصيل؟ إن الطرق التربوية تتعدد وتختلف باختلاف الإنسان موضوع التربية، فما يصلح مع هذا قد لا يناسب ذاك، لكنني أقتصر في هذا السياق على أسلوبين من الأساليب التربوية التي وضع لها الإسلام اعتبارا كبيرا وهما: أسلوب الثواب وأسلوب العقاب، إذ بهما يمكن التمييز بين المحسن والمسيء قال تعالى: "وما يستوي الاَعمى والبصير والذين أمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما يتذكرون" [سورة غافر، الآية: 58]، وجزاء المحسن على إحسانه وعقاب المسيء على إساءته واضح في قوله تعالى: "هل جزاء الاِحسان إلا الاِحسان"[سورة الرحمن، الآية: 60]. فالطريقة الأولى (الثواب) هي القاعدة في التربية، والثانية (العقاب)هي استثناء، لا يلجأ إليها إلا في الحالات المستعصية والنادرة، وحين تستنفد كل الطرق الضرورية للعلاج، عملا بالقاعدة التربوية التي يشير إليها أشهر أمثال العرب: (آخر الدواء الكي). فحقيقة الثواب أنه باعث على تثبيت السلوك السوي وتدعيمه، ومعين على تحسين الأداء وتقويمه، فحينما نكافئ أبناءنا على أداءاتهم الجيدة، ونقابلها بالاستحسان والقبول، خاصة في سنوات العمر المبكرة؛ فإننا بذلك نزرع الثقة في نفوسهم ونشجعهم على المزيد من الإبداع وحسن الاستجابة للدعوة إلى التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، تأسيا بالرسول المربي -صلى الله عليه وسلم -حيث كان يستخدم المكافأة والثواب لحفز الأطفال على القيام بأنشطة رياضية كرياضة السباق مثلا فيقول: (أيكم سبق فله كذا...) فكانوا يستبقون إليه ويقعون على صدره، فيلتزمهم ويقبلهم إضافة إلى المكافأة الموعود بها، فيجمع بذلك بين المكافأة المادية والمعنوية. وإذا تأملنا نماذج من فكرنا التربوي؛ فإننا نجد الاهتمام بمبدأ الثواب والعقاب حاضرا في أساليب تربية الأبناء، فهذا أمير المؤمنين هارون الرشيد يوصي مؤدب ولده (الأمين) فيقول: (لا تمعن في سماحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة؛ فإن أباها فعليك بالشدة والغلظة). لذا فإن الموقف التربوي هو الذي يفرض على المربي اعتماد نوع الأسلوب والطريقة الأنسب للموقف المناسب من الثواب أو العقاب، حتى يؤدي ذلك الأسلوب وظيفته التربوية، وحتى تسهل تربية الأبناء التربية الصحيحة، أما إذا كان الثواب على غير سبب حقيقي، فإنه يفقد قيمته وأثره التربوي. وأما العقاب فقد أوصى كثير من المربين بعدم اللجوء إلى أسلوب العقاب إلا إذا فشلت كل الأساليب؛ لأنه ليس هدفا في حد ذاته، ويلحق الضرر البالغ بالأطفال؛ حيث يضعف أداءاتهم ويثبط هممهم، كنتيجة طبيعية للأثر السيئ الذي يصاحب العقاب، ومن ثم كان التأكيد على الاهتمام بالثواب والاستحسان، وجعله القاعدة والأسلوب الغالب، لما له من آثار حميدة على المدى القريب والبعيد، واستبعاد العقاب، إلا في حالة الضرورة القصوى، مع مراعاة المراحل الآتية: 1. تجاهل خطأ الطفل في البداية، لإعطاء الفرصة لمراجعة نفسه بنفسه. 2. عتاب الطفل على انفراد وتقديم النصح له وتنبيهه إلى عدم العودة إلى خطئه، بشرط عدم الإكثار من العتاب؛ لأنه يهون عليه سماع الملامة ويبلد الحس تجاه النصح والعتاب وبالتالي لا ينفع. 3. إذا تمادى في خطئه يعاتب جهرا، أمام إخوانه ورفاقه، لكن بالتركيز على انتقاد السلوك، والبعد عن انتقاد صاحب السلوك. 4. ثم الضرب كملجأ استثنائي وأخير؛ لأن الشرع الحكيم قد أقره لكن بضوابطه، وأحاطه علماء السلوك بشروط تجعله عقوبة لا تخرج عن مغزاها التربوي، وألا تؤدي إلى نتائج عكسية لها آثارها السلبية على المخطئ. خلاصات: إن تربية الأبناء مهمة تحوطها مجموعة من الصعوبات لعل أبرزها: • الصعوبة الأولى راجعة إلى الإنسان نفسه، موضوع التربية، وما أدراك ما طبيعة الإنسان التي حيرت علماء النفس والتربية عبر قرون وقرون؟ فلم يستطع البحث النفسي والتربوي أن يحسم في كثير من قضايا هذا الإنسان رغم التقدم العلمي. • الصعوبة الثانية آتية من تعدد النظريات التربوية تبعا لتعدد المرجعيات الثقافية، هذا التعدد أنتج رؤى واتجاهات مختلفة، وغير واضحة لدى المربي البسيط فيقع في أخطاء قد تضحي بأجيال. • الصعوبة الثالثة مرتبطة بسوء الاستعمال الوظيفي لتلك النظريات، والذي يرجع بدوره إلى غبش في الرؤية إلى الإنسان موضوع التربية، يضاف إلى ذلك الجهل بأساليب وطرق تربية هذا الإنسان، فقد يكون مفهوم الضرب –مثلا- لدى البعض مختلفا كثيرا عن مفهومه لدى آخر وآخر... فيساء استعمال المفاهيم، وبحجم ودرجة الإحسان أو الإساءة في الاستعمال تكون النتائج. وكيفما كانت الصعوبات والعقبات؛ فإن الواجب يفرض -على الجميع -إعادة النظر في نظمنا التربوية داخل الأسرة أولا، محط الرهان، إذ بصلاحها تصلح الأمم. والله ولي التوفيق، يتبع... ---------------- 1. وضع القيود والضوابط. 2. كتاب إميل (التربة) في التربية على الحرية، وكتاب (العقد الاجتماعي) في الحرية السياسية. 3. المهتمون بالتربية وعلومها ممن تبلورت لديهم الرؤية وتكونت لديهم النظرية التربوية الإسلامية انطلاقا من المرجعية الإسلامية والتراث التربوي الإنساني.