ثانيا. بين مفهومي الميزان والأسوة مفهوم الميزان في القرآن المجيد مفهوم متميز وفريد؛ لأنه يبدو من مهّام الرسل الأولى والمركزية، ومن ذلكم قول الله عز وجل: "لَقَدْ اَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" [الحديد، 24]، ويقول جل وعز: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بأيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَامُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ" [اَل عمران، 21]، فأتباع الأنبياء سمّاهم الآمرين بالقسط، أي المُعْمِلين بالميزان[1]. والملاحظ أن كل الآيات التي ذكرت الميزان قرنت بالمكيال والقسط، أو جاءت بلفظ الإنزال إلا آية واحدة قرنت برفع السماء وهي قوله تعالى: "وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ" [الرحمن، 5]. هناك تمييز في كتاب الله عز وجل بين "المكيال" و"الميزان"، فالميزان معنوي، بيد أن المكيال يظهر ويتجلى ككونه أمرا ماديا، ثم إن الموازين تطال أعمال الناس، كما تطال الحضارات، وتطال الأمم؛ فالإنسان نجده مدعوا لكي يقيم الوزن بالقسط، انطلاقا من الشِّرعة السارية في كتاب الله، في الوحي الخاتم، أن يقيم الوزن بالقسط ولا يُخسِر الميزان، وانطلاقا من الرؤية الكلية، الكامنة في القرآن المجيد، أن يقيم الوزن بالقسط ولا يخسر الميزان، انطلاقا من التأسي، والنظر إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، باعتباره الأسوة، قال سبحانه وتعالى عن خاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ إسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الاَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا" [الاَحزاب، 21]. فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي ينبغي أن توزن بسلوكه الشريف الكريم، كل أضرب سلوك الناس وتصرفاتهم. فهو صلى الله عليه وسلم، وبمقتضى ختم النبوة يمثل الوحدة القياسية الشاهدة التي تمثل حالة السواء في المجال الإنساني والتي بالنظر الواعي إليها يتم التعرف على الاختلالات التي في هذا المجال جمعا وإفرادا. بذلك يحصل إمكان العمل على ردها إلى حالة السواء، وتلك نعمة من الله جُلَّى؛ حتى إذا تمت إفادة الأمة من النبي فإنها بدورها تصبح وحدة قياسية على الصعيد الاجتماعي والحضاري يمكن التعرف عليها من خلال التعرف على الاختلالات في هذه الأصعدة ومن ثم يُمكِّن هذا التعرف من العمل على ردها إلى حالة السواء. وهذا هو ما يتجلى في قوله تعالى: "وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اَجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ" [الحج، 76]. وفي قوله سبحانه وتعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" [البقرة، 142]. يتبع في العدد المقبل.. ————————————————– 1. ورد لفظ الميزان تسع مرات في القرآن الكريم، هي: * قوله عز وجل: "وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ" [الاَنعام، 153]. * وقوله سبحانه: "قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ" [الاَعراف، 84]. * وقوله تعالى: "وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ اِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ" [هود، 83]. * وقوله جل وعز: "وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الاَرْضِ مُفْسِدِينَ" [هود، 84]. * وقوله جل ثناؤه: "اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ" [الشورى، 15]. * وقوله سبحانه وتعالى: "وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ" [الرحمن، 5]. * وقوله سبحانه: "أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ" [الرحمن، 6]. * وقوله عز وجل: "وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ" [الرحمن، 7]. * وقوله: "ولَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" [الحديد، 24]. فنلاحظ أن لفظ الميزان قد ذكر مرات متعددة تشديداً للتوصية به، وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه، والميزان ذكره الله تعالى ثلاث مرات في هذه السورة كل مرة بمعنىً فالأول هو "الآلة"، والثاني بمعنى "المصدر" أي "الوزن" والثالث للمفعول أي "الموزون" وذكر الكل بلفظ "الميزان"؛ لأنه اشمل للفائدة.