المسائية العربية / لحسن كجديحي ...هكذا مرت حياته بين بدايات جديدة لا حصر لها, وظل النص الحقيقي الذي كان يريد أن يكتبه لم يكتب بعد, وكل هذا الفضاء المسكون بالرحيل والحركة والصرخات والكلمات والأحزان هو الذي منحنه القدرة على أن يجدد نفسه, أن يكون الحاضر والمستقبل. لقد تداخل الزمن بالزمن والوجه بالوجه والمرآة بالمرآة.. فلو لم يكن هو لكان هو. وقد شعر أن ذاكرته, التي ازدحمت بغبار السنوات كانت تعج بصور ورموز كثيرة كان يطمس بعضها الآخر وكان عليه أن يضع الإشارات والعلامات في الذاكرة لكي لا يعيد أو يستعيد ما كتبه.. كان يقيس المسافة بالكلمات كما كان يفعل توفيق الحكيم عندما كان يقيس الوحدة في عودة الروح ( الكل في الواحد), هكذا كانت حياته كلها محواً وكتابة وكان مثله مثل من يقوم بالفتح الروحي لمدينة أو كتاب وكان عندما يصل إليه يرى أنه ليس هو الكتاب الذي يريد كتابته, وكان يتملكه الحنين أحياناً لكي يعود إلى المدينة أو الكتاب ولكن عندما كان يعود إليها يرى أنها قد احترقت وتحولت إلى رماد, وكان كمن يسير في متاهة ذات مائة باب وكان عليه أن يجتاز المائة باب ليخرج من المتاهة ولكنه كان يكتشف أن المتاهة ليس لها منفذ.. من جهة أخرى يستطيع القول إن تجربته الثقافية والروحية أدت به إلى عدم تعصبه لأي اتجاه فكري وعدم التوقف عند أية مدرسة من مدارس الفكر. فقد عايش أبطال الأساطير والتاريخ, الأحياء منهم والأموات, في مفترق ثقافات العالم المختلفة. وقد تقبلهم كلهم, الصوفي والعاشق والثائر والمفكر, تقبلهم بشكل وجودي, باحثاً عن لباب الثقافة الحية في تجربتهم. ولعل السبب في ذلك أنه هو نفسه يعيش ثقافته بشكل وجودي, أي دون شروط ولا مقدمات. فالأيديولوجيات لا تفرض عليه شروطها وكذلك الفقهاء. ففي رأيه مثلا أن الفنان مع حركة الإبداع التاريخي والفني ومع كل ما يصب في حركة الإبداع هذه, فهو لا يقف بين قوسي ضد أو مع اللذين يشيع استعمالهما في الحياة الثقافية عامة : أحمر/ أخضر, أسود/ أبيض, تصنيفات لا تهمه لأن المستقبل سيطرح شروطاً إنسانية جديدة. كما أنه يمكن الاستفادة بالمعرفة الإنسانية والاستعانة بخبرات الشعوب دون الوقوع في القيود والأغلال لهذه المعرفة أو تلك , أي يمكن الاستفادة من إنجازات الفكر الإنساني دون التحجر في الثوابت التي وصل إليها. وفي هذا الصدد يرى أن التراث يسعف إسعافا كبيراً في تمثيل الحداثة, فالتقارب بين فكر الأصالة والمعاصرة جعل الفكر يكمل بعضه بعضاً. لقد أقسم أن يعبر عن آرائه وأفكاره بحرية كاملة ولا يجد أية عوائق تعوقه, لا يوجد شرطي صغير في رأسه على الإطلاق. يبتعد عن كل ما يؤثر على حياته ككاتب, يحاول حماية مملكة الفكر الحر وحراستها بدقة بعيداً عن أعين الفضوليين والطفيليين, كما أن هناك تطابقاً بين سلوكه الاجتماعي في الحياة اليومية وبين سلوكه ككاتب يطرح رؤيا.فالمنفى في نظره منفى شمولي، (العالم منفي في داخل منفي والناس رهائن) كان ذلك شعوره منذ أن وعي هذه الدنيا, ذلك لأن الشرط الإنساني لم يتحقق, وكذلك الأمر بالنسبة للعدالة والديمقراطية, وهكذا يرى شعوب الأرض كلها منفية داخل أوطانها, وهؤلاء المنفيون في أوطانهم يضمهم منفى آخر هو هذا الكون, ومن ثم فإن السفر داخل المنفى الصغير أو الكبير يعتبر نوعاً من الترف والنزهة لدى ضعاف النفوس. إن وحدانية الإنسان في هذا العالم, وتركه معرضاً للشقاء الأبدي دون أن يختار اسمه, أو لونه, أو جنسيته, ذلك هو ألف باء النفي, فما بالك بياء النفي؟! إن أشد أنواع النفي هو أن تكون منفياً في عقر دارك, أو وطنك وأنت فقير. لقد رأى الصورة الكلية للشقاء الإنساني بعد أن كان لا يرى إلا الجزء الصغير من هذا الشقاء, كما أنه نعم ببعض السعادة الهاربة, وببعض الحب والفهم, وكان يعود ويده مبللة بالمطر أو بحفنة ثلج, أو بزهرة قطفها من أحد جبال العالم, أو بصورة امرأة أحبها, أو نصوص كتبها.. السفر أو الغربة أو المنفى عمق إحساسي بشقاء البشر وعذاباتهم وطموحاتهم, وسعادتهم المسروقة كما أنه اكتشف جوهرة الأمل الإنساني مهما سحق وهزم وحطم فإنه يعود أقوى مما كان, وعليه فإنه ليس مع رأي المفكر العربي القديم الذي شبه الإنسان بالزجاج الذي يكسر ولا يعاد سبكه, فالإنسان ( وهو يتقدم نحو حتفه) يضيف إلى عملية التجدد طاقة إنسانية جديدة, ويتحول إلى سماد إنساني في بستان المستقبل. لقد أحس بالنفي قبل النفي نفسه, أي أنه أحس بأنه منفي منذ طفولته, سواء في القرية أم في المدينة واكتشف أن العالم ما هو إلا منفى داخل منفى آخر, ولهذا عندما وجد نفسه أمام النفي الحقيقي شعر كأنما كان يصعد درجاً معروفاً له من قبل, أو كأنما كان ينتقل من أرض إلى أخرى في الذاكرة, كان يحمل المنفى في داخله, فعندما يولد الإنسان ويعيش في ظروف استلاب اجتماعي وثقافي وسياسي.. إلخ يحس كأنه طائر أو كأنه سحاب في الظاهر, لأن هذين الكائنين يحصل كل منهما على حريته بالرحيل, ولعله بسبب ذلك أحس بأنه أكثر حرية عندما جرب النفي في البداية, ولكنه بعد ذلك وجد نفسه محاطاً بصعوبات متراكبة وتزايدت أغلاله ولكن مع بعض اختلاف, ذلك أن مشاكل الحيز الذي كان منفياً فيه لم تكن مشاكله, وهذا الإحساس أعطى بالطبع بعداً جديداً لتجربته الإنسانية والفكرية. وهذا منحنى القوة المطلوبة, كان يضع نفسه في الخطر ولكن بوعي, دون أن يساوم الواقع, وكان يقبل الهزيمة وانتصار القدر, ولكنه كان يظل محتفظاً بكرامته, ويكره الانتصار السهل, وقد عثر على جدلية الوسائل والغايات وهذا هو ما ينقص بعض السياسيين لأنهم يريدون أن يصلوا إلى الغاية, أما (المفكر) الفنان فتهمه أيضاً الوسائل وبهذا فإن تجربة النفي علمته الكثير, وبهذا أيضاً دخل عوالم أناس قليلي العدد هم الخارجون على آلية النظام الحياتي, كان يحس كأنه قطرة من المطر ولكنه كان داخلاً في العاصفة وفيما بعد العاصفة. في البدء كانت الكلمة.. في حياة كل إنسان مناطق ومساحات ممنوع الاقتراب منها, إذ أن المفكر يحتفظ بها فيها بعيداً عن أعين الفضوليين والمتسائلين لأنها سر من أسراره. كما أنه يحتفظ بمفتاح هذه المناطق المحببة لكي يورثها لمن بعده قبل موته بقليل, فهناك وصايا وأسرار كثيرة لا يبوح بها, لأنها سر من أسرار قوته. كان جيله المتسول الذي استعار ثياب وأزياء من كل عصر حتى فقد شخصيته وصوته الحقيقي. في هذه الفترة وقبلها بقليل كان كمن يبحث عن الشكل الملائم للتعبير عن نفسه واكتشف أن التعبير الواقعي أقرب إليه من أي شكل آخر ولم يكن غير الفكر قادراً على إشباع رغبته في التعبير بالكلمة وإنه وإن كان لا يؤمن بإمكان ولادة المفكر وفي يده القلم الذهبي, وإنما يمكن أن يولد في قلب ذلك الإنسان الذي لا يتم التوافق بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي. إن التناقض الذي يمكن أن يقوم حينئذ يولد عدداً من الأحاسيس غير المصنوعة وغير القابلة للتغير. وفي اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان تناقضه مع العالم الخارجي يبدأ في التمرد عليه. ومثلما يبحث النهر الدفين عن المكان المناسب الذي يمكن أن ينبع منه يبدأ المفكر الموعود في محاولة اكتشاف نفسه. إن المهم هنا إنما هو نقطة البداية. إن البدء في محاولة فهم العالم ومحاولة تفسيره ودفعه إلى خارج نطاق النصائح والتعاليم والتربية, ومحاولة التمرد عليها ومناقشتها وخلق نوع من الحوار الصامت حولها, كل هذا يلعب دوراً في صنع عالم المفكر القادم.. لقد كان البحث عن الشكل الواقعي الذي لم يجده في كثير من مفكرينا, وكان التمرد الميتافيزيقي على الواقع, دون وضع بديل له, والأشواق التي لا حصر لها, والتطلع إلى عالم تسقط فيه كل الأسوار بعيداً عن الشعارات التي استهلكت, كان هذا البحث هو ما أدى إلى اكتشاف الواقع المزري الذي تعيشه الجماهير وإلى اكتشاف بؤسها المفزع. وهنا كان لابد من ضمور الباعث الميتافيزيقي في نفسه ونمو الواقع الاجتماعي والسياسي, وكان هذا النمو انعكاساً وتفاعلاً مع ما حدث في المجتمع المغربي ذاته من تحول إلى الثورة الإيجابية نفسها, كان يشعر في ذلك الوقت بأنه يكتب مدافعاً عن الحرية والعدالة للجماهير البائسة لا لنفسه. كان يفهم الالتزام على أن ( المفكر)الفنان مطالب في أعماق أعماقه أن يحترق مع الآخرين عندما يراهم يحترقون, أما الوقوف على الضفة الأخرى والاستغراق في الصلاة الكهنوتية فليس هذا من صفات ( المفكر) الفنان الحقيقي في أي عصر من العصور.