«لقد قاتلنا من أجل فرنسا وكدنا نموت واليوم نحن نتوسل تعويضاتنا بعد أكثر من أربعين سنة من الانتظار»، هكذا علق احماد بن محمد، الشيخ العجوز الذي تعدى ربيعه السبعين. احماد، ابن إمنتانوت، لازال يتذكر العامين اللذين أمضاهما في العاصمة الفيتنامية «سايغون». يتذكر مدفعه الذي كان يقذف قنابل كروية الشكل «تنفجر بمجرد سقوطها على الأرض». يتذكر بائعات الخضر الفيتناميات اللائي يتحولن في الليل إلى مقاتلات شيوعيات. ولا يتردد في التعليق، بكلمات محارب كاد يموت فداء لألوان علم ليس بالأخضر والأحمر: «لم أكن خائفا من الموت لأجل فرنسا». لازال احماد بن محمد يتذكر كل شيء: كل الأسماء، وكل الشهداء، وكل المدافع. في تلك الليلة من عام 52 حملوه من مدينة صفرو في اتجاه مطار مراكش. صعد الطائرة العسكرية لثاني مرة في حياته. وجد أبناء القبيلة، ورفاق الجيش، و«الفرانصيص». كان يعلم أنه ذاهب إلى الحرب لكنه لا يعرف من هو العدو؟ ولازال إلى اليوم يقول إنه حارب «الشينوا»، ولا يعلم أن عدوه كان فيتنامي الجنسية، ويجهل إلى اليوم من هو «هوشي منه»، ولا يعرف أنه كان يحارب شيئا اسمه «الشيوعية». يتوقف للحظات. يحضن عكازه الخشبي، ويقول: «طرنا لزمن طويل وفي الأخير وجدت نفسي في سايغون». احماد يبتسم بفخر وهو يتذكر أيام شبابه، التي يصفها ب«أيام الجنون». أعجبته سايغون كثيرا رغم أنف الحرب. كان يقوم بكل واجباته العسكرية، وفي الليل كان ينام «نومة ذئب». تلك النومة التي لا يعرف معناها غير من جرب الحرب: «العين اليمنى نائمة واليسرى مستيقظة»، بينما أصوات المدافع الشيوعية تملأ المكان ضجيجا: «وفي الطرف الآخر نسمع أنين المصابين والجرحى». الغريب في وجه بن محمد هو أنه يبتسم بفرح في كل مرة يتحدث، دون أن يفارقه الإحساس بالفخر وهو يقول: «لقد كان الشينوا مقاتلين أشداء». يعتدل في جلسته، ويستطرد مضيفا: «كنت مكلفا بالمدفع الحربي. كان مدفعا صلبا وخطيرا، وكنت أطلق النار على العدو دون توقف». يبتسم مرة أخرى حتى تظهر أسنانه القليلة، ويضيف: «لم أكن خائفا مطلقا، كنت أحارب لكي لا أموت، وكنت أعرف أنني لو مت سأموت شهيدا». بين ذكريات مجده البطولي وواقع حاله يبدو احماد بن محمد منهكا جدا. لحيته خفيفة بيضاء تمنحه وقار شيخ حكيم. جلبابه البلدي فقد لونه، ربما لكثرة الاستعمال. فكه السفلي الذي بدأ يفقد تموقعه الطبيعي داخل فمه. أسنانه الصفراء صارت كل يوم تفقد ارتباطها باللثة. يده التي تتحرك يمينا وشمالا كلما تذكر صوت القنابل المنطلقة من فم مدفعه الفرنسي القديم. نظاراته الطبية، التي يشبه زجاجها قعر كأس فارغة، والتي بدونها لا يستطيع الرؤية. عكازه الخشبي الذي لا يمشي ولا يتحرك بدونه. دارجته المغربية المختلطة بلحن أمازيغية أهل إمنتانوت. وابتسامته الطفولية التي تتخلل جمله وكلماته. إلى جوار هذا «المحارب الشجاع» تجلس زوجته، التي تتابع بعينيها «الذكيتين» كل كلماته وحركاته، وهي المسؤولة عن الاحتفاظ له بأوراق الحرب، وبكل الوثائق التي تدل على أن زوجها كان مقاتلا في الجيش الفرنسي أيام حرب الفيتنام، «النساء خزانة الرجال» كما قال أحدهم يوما ما، لكن زوجة احماد هي أكثر من مجرد «خزانة»، ولكنها مالكة تاريخ زوجها، وكاتمة سره، إنها تعرف حركاته جيدا، وتصحح له تعبيراته، وأكثر من ذلك هي تحفظ عن ظهر قلب قصة «المحارب الشجاع» في لاندوشين. عندما تسأل احماد عن أبرز حدث يتذكره أيام الحرب في «لاندوشين»؟ يجيب دون تردد: «إنه اليوم الذي أنقذت فيه الكبانية 17»، ويوضح: «لقد هجم علينا الشينوا ليلا. وكانوا كثرا. لم أكن مكلفا بالحراسة في تلك الليلة كنت نائما». يبتسم بفخر ويضيف: «في النهاية استطعنا أن نقتلهم جميعا ما عدا واحدا ظل مختبئا في أحد أركان الثكنة»، وبفخر يضيف: «الشينوا إذا تركت منهم واحدا فاعلم أن كل الثكنة ستموت. إنهم خطيرون جدا. أنا الوحيد الذي شاهدته. حملت «لمكوحلة» وأرديته قتيلا. ومنحتني فرنسا وساما على ذلك»، ويختم كلامه بابتسامته المعتادة.