تفكيك منظمة إرهابية بتعاون أمني بين المغرب وإسبانيا    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    زنيبر يبرز الجهود التي تبذلها الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان لإصلاح النظام الأساسي للمجلس    وهبي: مهنة المحاماة تواجهها الكثير من التحديات    رئيس مجلس النواب…المساواة والمناصفة أبرز الإنجازات التي شهدها المغرب خلال 25 سنة    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني شي جين بينغ في زيارة تاريخية للمغرب    تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    الأحمر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    ارتفاع مؤشر التضخم الأساسي ب3% الشهر الماضي في المغرب        بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    دفاع الناصري يثير تساؤلات بشأن مصداقية رواية "اسكوبار" عن حفل زفافه مع الفنانة لطيفة رأفت    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    انهيار سقف مبنى يرسل 5 أشخاص لمستعجلات فاس    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    مشروع قانون جديد لحماية التراث في المغرب: تعزيز التشريعات وصون الهوية الثقافية    استئنافية طنجة توزع 12 سنة على القاصرين المتهمين في قضية "فتاة الكورنيش"    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        كيوسك الجمعة | إيطاليا تبسط إجراءات استقدام العمالة من المغرب    توقعات أحوال الطقس لليوم الجمعة    أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصنع الاستشهاديين
نشر في المساء يوم 04 - 05 - 2008

ما الذي دفع هذا العدد الكبير من الليبيين إلى التطوع لتنفيذ عمليات انتحارية في العراق؟ زيارة إلى مسقط رأسهم، مدينة درنة، التي تعاني من انسداد الأفق
حتى قبل أن يختفي، لم يكن الشاب عبد السلام بن علي من الأشخاص الذين تنتبه لوجودهم، فابن ال20 عاما الشاحب والهزيل الذي انطفأت إحدى عينيه لم يخلف انطباعا قويا في درنة، مسقط رأسه في شرق ليبيا. درس الطب البيطري في الجامعة لكنه لم يجد عملا بعد التخرج. يتذكر شقيقه الأكبر عبد الحميد: «كان الوضع الاقتصادي مريعا، وكان يبحث عن عمل كل يوم». أحيانا كان عبد السلام يضع طاولة يمكن طيها في مدينة درنة القديمة وينادي على عطور رخيصة. وكان هذا الشاب غير المتزوج، والذي لا يملك آفاقا كثيرة، لا يزال يعيش مع والدته، وعلى سبيل التسلية في المنزل، كان يشاهد الفيلم الملحمي (أسد الصحراء: عمر المختار) الذي يتحدث عن مقاتلين ليبيين ويؤدي دور البطولة فيه أنطوني كوين، وقد شاهده عبد السلام مرارا وتكرارا. ومع استمرار الحرب في العراق، كان يشاهد أيضا قناة الجزيرة، لم يدعم أحد في العائلة الاجتياح الأمريكي، لكن عبد السلام تأثر كثيرا بالمشاهد الدموية التي رآها على القناة الإخبارية العربية، وكان يقول أحيانا لوالدته ممازحا إنه يريد الهرب لمحاربة الأمريكيين، وكان يتراجع دائما قبل أن تتمكن من الاعتراض، كان يقول ضاحكا: «لا، لا تقلقي أمي، سوف أتزوج بدلا من ذلك». لكن شقيقه الأكبر لم يكن واثقا. يتذكر عبد الحميد: «كنت متأكدا من أنه سيذهب. كان يتحدث عن الأمر باستمرار». وبدأ عبد السلام يظهر تدينا أكبر أيضا. يقول شقيقه إنه كان يمضي الجزء الأكبر من وقته في المسجد.
وذات يوم في أواخر شتنبر 2006، اختفى عبد السلام. سألت والدته القلقة شقيقه عندما لم يأت لتناول العشاء: «أين هو؟» فطمأنها قائلا إن عبد السلام ذهب إلى بنغازي، ربما لشراء العطور، لكن عبد الحميد لم يكن يصدق روايته. فعلى الأرجح أن الشقيق الأصغر تنقل مجانا في سيارات أوصلته إلى القاهرة ومن هناك طار إلى دمشق. ثم عبر الحدود إلى العراق وبجيبه 100 دولار، وانضم إلى مجموعة من المقاتلين يقودها منسق عرفه عبد السلام باسم «حمد». بعد وقت قصير من اختفائه، رن الهاتف في درنة. وقال الصوت في الجهة الأخرى من الخط: «أنا في الرمادي، أنا في العراق».
في أواخر العام الماضي دهم الجنود الأمريكيون مقرا للمتمردين في بلدة سنجار شمال العراق. ووجدوا في داخله وثيقة على الأرجح أنها الطلب الذي ملأه عبد السلام في طريقه لدخول البلاد مطبوعة باسم «مجلس شورى المجاهدين». ولم تكن الوثيقة تذكر سوى تاريخ مولد عبد السلام ورقم هاتف شقيقه ومسقط رأسه. لكن عندما حلل المحققون الأمريكيون الأوراق، صدموا بما اكتشفوه. فقد تبين لهم أن نحو 19 في المائة من المقاتلين الواردة أسماؤهم في سجلات سنجار والبالغ عددهم 606، جاؤوا إلى العراق من ليبيا. من قبل، كانت التقديرات الاستخباراتية تشير دائما إلى أن السواد الأعظم من المقاتلين الأجانب في العراق هم من السعودية. بالفعل، كان العدد الأكبر من المقاتلين في سجلات سنجار 244 مقاتلا من الجنسية السعودية. لكن إذا أخذنا عدد السكان في الاعتبار، فإن الليبيين يمثلون نسبة أعلى بكثير. ولعل التفصيل الأكثر إثارة للدهشة هو أنه من أصل 112 ليبيا مذكورة أسماؤهم في الأوراق، قدم عدد كبير جدا 52 من بلدة واحدة تضم 50 ألف نسمة على الساحل المتوسطي واسمها درنة.
في مطلع هذا الشهر، سافرت إلى درنة لأحاول معرفة سبب تقدم هذا العدد الكبير من شبانها لمحاربة الأمريكيين في العراق. تحيط مناظر طبيعية خلابة بالبلدة الرابضة في ظلال جروف عالية من الحجر الكلسي تطل على البحر المتوسط المتلألئ وتتلون بلون الصدأ. لكن تصطف عند جانبي الكورنيش سلسلة كئيبة من المساكن الإسمنتية المتداعية المطلية بدهان البستل المشقق. يطغى قطاع النفط والغاز على الاقتصاد الليبي، فهو يشكل 90 في المائة من عوائد البلاد، لكن نصيب الإقليم الشرقي من تلك الثروة ضئيل جدا. يقر المسؤولون الحكوميون في طرابلس في أحاديثهم الخاصة بأن الشرق يعاني الإهمال منذ وقت طويل.
غير أن اليأس من الوضع الاقتصادي لا يشرح وحده الأسباب التي تقف وراء استعداد شبان درنة للانضمام إلى المتمردين في العراق. هناك عشرات الملايين من المسلمين الفقراء في العالم، إلا أن حفنة صغيرة فقط ربما نحو مائة في أي فترة من الفترات تسافر إلى العراق للقتال. ليس هناك إجماع حول دوافعهم الحقيقية، وما الذي يحول شخصا من مشاهد ناقم للأخبار على المحطات الفضائية إلى انتحاري. يقول بريان فيشمان، وهو خبير في مكافحة الإرهاب في وست بوينت أجرى تحليلا واسع النطاق لسجلات سنجار: «هذا هو اللغز الكبير. الديناميات محلية جدا جدا». هناك بعض القواسم المشتركة. ففي المقابلات التي أجرتها نيوزويك مع أفراد عائلات المجندين المحليين، تحدثوا عن شبان يعيشون حياة كئيبة ويبحثون عن الانعتاق. لا تحفز إِيديولوجيا عالمية واحدة جميع المجندين الجهاديين بل غالبا ما تحركهم عوامل شخصية مثل الصدمة النفسية والتنافس بين الإخوة والرغبة الجنسية.
لدى مقاتلي درنة قاسم مشترك آخر: تمسك شبه هوسي بمكانة بلدتهم في التاريخ. تتناثر الأنقاض اليونانية والرومانية التي هي من مخلفات الاحتلالات في الماضي الغابر، في حقول القمح والشعير على طول السهل الساحلي الليبي. وقد تركت الولايات المتحدة بصمتها الدائمة على ذاكرة البلدة الجماعية خلال حروب الساحل البربري في مطلع القرن ال19. فقد تحولت درنة ساحة معركة أساسية في أول مهمة عسكرية أمريكية في الخارج، عندما عبر 500 جندي من قوات مشاة البحرية الأمريكية (مارينز) ومرتزق محلي الصحراء من مصر للهجوم على البلدة. (ألهمت معركة درنة الجملة عن «شواطئ طرابلس» الواردة في نشيد المارينز المعتمد حاليا).
لكن بلدا آخر طبع المثال الأعلى للمقاومة المسلحة في ذهنية البلدة بعد قرن. عام 1911، أرسلت إيطاليا سفنا حربية إلى مرفأ درنة، فكانت هذه بداية وجود استعماري قاس استمر طوال حقبة موسوليني إلى أن منيت قوى المحور بالهزيمة في الحرب العالمية الثانية. وبلغت المقاومة المحلية للاحتلال أوجها في التلال الصخرية قرب درنة، لكن حتى هناك كان مصيرها السحق في نهاية المطاف. ومن غبارها، ظهر تقليد محلي المنشأ للشهادة الإسلامية.
الأسطورة المحلية منتشرة بقوة إلى درجة أنها توجه المسؤولين الكبار في البلدة. في يومي الثاني في درنة، عرجت على مكتب صديق أفضيل، أحد أمناء اللجنة الشعبية في البلدة، أي مرادف العمدة في ليبيا. وكان نسيم بحري عليل يدخل من نافذة مفتوحة وراء مكتب أفضيل. في البداية أنكر أن بلدته ترسل عددا كبيرا من شبانها إلى العراق قائلا: «لا نعرف العدد بالضبط. هنا في درنة، لا يتجاوزون ال10». فأريته رزمة الوثائق التي يضم بعضها صورا صغيرة للمقاتلين، فالتزم أمين اللجنة الشعبية الصمت. ثم قال من خلال المترجم: «ليس لدينا أي فكرة عن الموضوع. ليس لديهم سببا ليذهبوا». امتص نفسا من سيجارته، وأقر في نهاية الأمر: «اسمع، هذا رقم ضخم. إذا كان هذا الرقم صحيحا، فهذا سيئ جدا. إنه سيئ للسياسة. لكن ليس سيئا أن يقوم المسلمون بواجبهم. قالت أمريكا إن هذه الحرب هي من أجل الحرية. وهي ليست كذلك. ما نراه على الجزيرة لا ينطبق على ما قاله لنا الأمريكيون. لا يمكنني منعهم من الذهاب. ما علمنا إياه القرآن هو الجهاد». وعندما سألت عن تاريخ المقاتلين المتمردين في البلدة، لم يستطع أفضيل أن يخفي ابتسامته العريضة قائلا: «أولئك هم الأشخاص الذين ناضلوا وحاربوا دفاعا عن أرضهم. يجب أن نتذكرهم».
كل شيء ما عدا الفتاة
صدام وعمر المختار شخصيتان مبجلتان في مسجد الحسن، وهو عبارة عن مبنى متواضع مبيض بماء الكلس مع حافة مطلية بالبستل الأخضر في وسط مدينة درنة القديمة. وضع ملصق لعمر المختار، بال وممزق، على الباب الأمامي. كان أنوري الحصادي، مؤذن المسجد، قد وصل للتو لرفع أذان صلاة العصر عندما عرجت على المكان. إنه يبلغ من العمر 60 عاما، وكان يرتدي دشداشة رمادية مخططة بخيوط رفيعة جدا وله شاربان كثيفان يتدليان فوق فمه، وهو يشبه شخصية من شخصيات ديكنز. جلسنا على كرسيين قابلين للطي في ردهة المسجد، وسألت المؤذن عن رأيه في حرب العراق. حاول أن يتهرب من الإجابة مظهرا عدم رغبة في الخوض في غمار السياسة، لكنه انفجر فجأة وصرخ «النفط! النفط! أمريكا تحتاج إلى النفط. إنها غلطة أمريكا. أتظن أنهم جاؤوا إلى هنا لشراء الفاكهة؟ جاؤوا سعيا وراء النفط!» ورفض أن يجيب في البداية إذا كان يوافق على توجه الليبيين إلى العراق للقتال هناك. وفي النهاية قال إنه لا يوافق. لكن كان من الصعب تصديق كلامه هذا بعد فورة الغضب التي أظهرها في حديثه عن النفط. سألته عن أحد أنسبائه، أشرف الحصادي البالغ من العمر 18 عاما. فبحسب وثائق سنجار، غادر الشاب درنة العام الماضي متوجها إلى العراق. أنكر المؤذن معرفته به ثم قال بما يشبه الهمس باللغة العربية: «كان مجرد ولد».
كان أشرف الحصادي يعمل على مقربة من مسجد الحسن في متجر توابل تملكه عائلته عند الطريق الأساسي الذي يعج بالحركة في المدينة القديمة. كان طويلا وحليق الشعر إنما ممتلئ بعض الشيء، وكان هذا الفتى الأصغر بين أربعة أشقاء «الأكثر هدوءا في العائلة»، كما يقول شقيقه بكر الذي كان يعمل على الصندوق في المتجر عندما مررت به. كانت أكياس كبيرة من السكاكر والبلح ونوع من التوابل يعرف بالبهارات تتكدس على الرفوف وراءه. بدا بكر حذرا بعض الشيء عند وصولي، لكنه دعاني إلى الدخول وقدم لي كوب شاي. وطلبت منه أن يخبرني بما يعرفه عن أشرف.
فشرح لي بكر أنه كان يحض شقيقه أخيرا على الزواج. بسن ال18، كان أشرف لا يزال عازبا وصغيرا على الزواج. ولما كانت تكاليف الزفاف باهظة ودرنة فقيرة نسبيا، فإن معظم الرجال في البلدة لا يتزوجون قبل أواخر عقدهم الثالث على الأقل. غير أن متجر التوابل كان يوفر مدخولا ثابتا لعائلة الحصادي، وكان أشرف أفضل حالا بكثير من معظم أصدقائه. بعد وفاة والدته عام 2006، كان على أشقائه أن يتدبروا له زوجة. وكان أشرف يملك وظيفة وشقة وسيارة، أي كل الشروط المسبقة الضرورية. ومع ذلك، كان أشقاؤه قلقين من أنه سريع التأثر، حساس وقاس في الوقت نفسه. كان يرتعد أمام الصور القادمة من العراق التي يشاهدها على الجزيرة. يتذكر بكر: «لم يشاهد الأفلام قط. كان يشاهد الأخبار فقط». بعد العمل، كان يحلو لأشرف أن يقوم بجولة في سيارته من طراز هيونداي السوداء في الأحياء الضيقة لمدينة درنة القديمة. ولم يكن يظهر اهتماما بالزواج، الأمر الذي كان يثير روع أشقائه. قال شقيقه عبد القادر ضاحكا: «كان لديه كل شيء ما عدا الفتاة».
أصر عوض الذي كان يجلس على الأرض في إحدى زوايا الغرفة، على أنه لن يذهب إلى أي مكان. لكنه أردف قائلا: «عندما ينوي المرء الذهاب، يبقي الأمر سرا. إذا كنت أخطط للذهاب، فلن أخبر أحدا». كان من السهل أن ندرك لماذا يراقب والد عوض ابنه الأصغر بعناية، فقد أظهر الأخير ذكاء ماكرا. عندما سألت إذا كان عبد الحكيم قد خضع لأي تدريب عسكري من قبل، أجاب عوض «لم يخضع لأي تدريب. لم تكن لديه عضلات». وعندما سألت عوض عن شكل شقيقه، حدق ابن مصطفى عقالي الأصغر في وجهي وقال: «كان يشبهك».
قال آل عقالي إن عبد الحكيم لم يتصل بهم منذ أكثر من سنة، كما أنهم لم يتلقوا اتصالا يعلمهم أنه قتل. وقبل أن أغادر، قدم لي مصطفى عرضا. لا بد من أنه اعتبرني نوعا من قناة عبور إلى عالم أمريكي بعيد لا يستطيع الوصول إليه. فقد اقترب الوالد اليائس مني وأصر بنوع من التأمر على أنه سيهبني جملا إذا استطعت أن أجد طريقة ما لإعادة ابنه إلى المنزل.
لم يبق سواي
إذن الجواب عن السؤال «لماذا درنة؟» هو في المزيج المتفجر من اليأس والاعتزاز والحماسة الدينية. فهذه العوامل التي نجدها منفردة في أجزاء عدة من العالم الإسلامي، تجتمع هنا على شواطئ الجزء الشمالي من ليبيا.
على الرغم مما كشفته وثائق سنجار، فإن قلة من المسؤولين الأمريكيين يعتقدون أن القذافي يرسل مقاتلين إلى العراق. فإذا عادت موجة من الجهاديين من العراق إلى ليبيا مزودة بمهارات جديدة، أقل ما يقال عنها هو أنها ستكون كابوسا كبيرا له بقدر الكابوس الذي يسببه هؤلاء المقاتلون للأمريكيين في العراق. لطالما كانت الأراضي المحيطة بدرنة معقلا للمعارضة الإسلامية لنظام القذافي. ففي منتصف التسعينات، شنت أجهزته الأمنية حملة قوية ضد المقاتلين في درنة، واستخدمت المروحيات الحربية للقضاء على المتمردين المحليين الذين يطلقون على أنفسهم اسم «الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة». تبدو البلدة هادئة بما يكفي الآن، لكن لايزال هناك عدد كبير من حواجز التفتيش التي يشغلها عناصر شرطة بلباسهم النظامي. عند السؤال عن الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة، يلزم معظم السكان الصمت، حتى أولئك الذين يؤيدون بكل سرور إرسال مجندين ليبيين إلى العراق.
يبدو أن القذافي يقر بأن ثمة مشاكل في درنة. فمع ارتفاع أسعار النفط، حاول النظام تحسين الحياة في شرق ليبيا. على الطريق الرئيس المؤدي إلى درنة، بدأت الحكومة بناء نحو ألفي شقة لإيواء نحو 13000 من السكان المحليين بحلول نهاية 2009. لاتزال الوحدات السكنية المعروفة ب»شقق الوادي» شاغرة في الجزء الأكبر منها، إلا أن الخطة تهدف إلى توفير مساكن مجانية للعائلات الشابة والعازبين. لكن في وقت سابق هذا العام، أعلن القذافي أنه يريد أن يجرب خصخصة الخدمات الاجتماعية، وهذا تحول عميق عن جذوره الاشتراكية. يقول دبلوماسي غربي في طرابلس طلب عدم ذكر اسمه في معرض مناقشته لخطط النظام: «إنه ينادي بنوع من التحررية الراديكالية». على الأرجح أن النتيجة في المدى القصير هي أن الكثير من الليبيين سيعيشون أوقاتا صعبة، حتى ولو تجاوز سعر برميل النفط ال100دولار. عقب ظهور وثائق سنجار، مارس المسؤولون الأمريكيون ضغوطا خفيفة على ليبيا. وفي نوفمبر، توجه وفد بقيادة الجنرال ديل دايلي، وهو اختصاصي رفيع المستوى في شؤون مكافحة الإرهاب يعمل حاليا في وزارة الخارجية، إلى طرابلس للقاء مسؤولين ليبيين كبار. وعندما أطلًع الليبيين على أمر الوثائق، أنكروا الظاهرة في البداية، لكنهم أقروا بالمشكلة في نهاية المطاف بعدما قدم الأمريكيون الدليل. يقول المسؤولون الأمريكيون إنهم راضون إلى حد كبير عن التعاون الذي حصلوا عليه من السلطات الليبية، وتشجعهم الأرقام الأحدث عهدا التي تصل من العراق ويبدو أنها تشير إلى تراجع وتيرة تدفق المقاتلين في الأشهر الأخيرة. في غضون ذلك، يبحث محللون أمريكيون آخرون عن أساليب مبتكرة لكبح التدفق بغض النظر عما يقرر الليبيون القيام به. يقول فيشمان إن المتمردين يستخدمون في معظم الأحيان مهربين عاديين لا يكترثون إلا لتحقيق الربح، كي يتولوا نقل المقاتلين إلى العراق. ويضيف الاختصاصي من وست بوينت أنه قد يكون من الذكي محاولة استيعاب أولئك المهربين بدلا من محاربتهم مستدركا «بصراحة، بعضهم».
في المنزل في درنة، يقول عبد الحميد بن علي إنه لا يعرف بالضبط كيف استطاع شقيقه الالتحاق بالمتمردين. ويتابع أنه نادرا ما كان شقيقه يستعمل الإنترنت، ولم تكن لديه أي صلات بعناصر الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة. بعد وقت قصير من اتصال عبد السلام الأول بمنزله، اتصل المجند الشاب من جديد من الرمادي ليقول إنه في طريقه لتنفيذ «عملية». عندما رن جرس الهاتف بعد أربعة أيام، لم يتعرف عبد الحميد على الصوت في الجهة الأخرى من الخط. قال المتصل «عبد السلام شهيد». يقول عبد الحميد إنه تقبل خسارة شقيقه. قال وهو مقطب الجبين ويفرك يديه: «عندما قتل، فرحت كثيرا. في رأيي، كان محقا بالذهاب. نعم كان محقا بالذهاب. نرى أشخاصا يُقتَلون من أجل لا شيء. أنا أيضا كنت أفكر بالذهاب». الآن أصبح عبد الحميد معيل الأسرة الوحيد. يقول بهدوء: «لا يمكنني الذهاب الآن. لم يبق سواي». يحدق في صورة كبيرة جدا لشقيقه الأصغر الشهيد معلقة في غرفة الجلوس. ويرد له عبد السلام النظرة بعينيه المنطفئتين. وأخيرا وجد الشقيق الأصغر مكانا له في مسقط رأسه الكئيب: داخل إطار ذهبي اللون خلف لوح زجاجي معلق على الجدار.
عن نيوزويك


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.