يسمونه في الغرب «المال القذر»، وفي المغرب وبلاد المسلمين «المال الحرام»، وفي المؤسسات المصرفية الدولية «المال المغسول أو المبيّض». وبين القذارة والحرام والتبييض تنتعش العواصمالغربية، ومنها باريس، من مبالغ هائلة من الأموال التي يغسلها بعض المستبدين الأفارقة في الأملاك العقارية والأبناك والمؤسسات الصناعية، تمهيدا للجوء إلى هذه العواصم عندما يحين يومهم. ولم تكن منظمة الشفافية الدولية قاسية في شيء على القارة الإفريقية وبعض حكامها عندما صنفتها، في تقريرها لسنة 2006، الأولى من حيث الارتشاء والفساد وسوء الحكامة وتهريب الأموال. وقد بين تقرير المنظمة ومعه آخر لمنظمة الأممالمتحدة للتجارة والتنمية أن القارة الإفريقية شهدت في العشرية الأخيرة تهريب ما يزيد عن 13 مليار دولار سنويا باتجاه البلدان الغربية، وهي مبالغ تفضح بجلاء مستوى احتيال بعض القادة الأفارقة الذين يواصلون تشييد امبراطورياتهم المالية على أنقاض شعوبهم، مستعينين بشبكات واسعة من كبريات الشركات المتخصصة في النصب بمختلف أشكاله، الاقتصادي والانتخابي والإداري والسياسي وحتى الإنساني. شبكات ذات تمويل ضخم لا هوية ولا وطن لها، تتحرك بحرية وفي الخفاء عبر الحدود الدولية لترسم معالم سياستها الاحتيالية في إفريقيا وبلدان العالم العربي، القطبان المفضلان لديها إلى جانب بعض دول آسيا وأمريكا اللاتينية. وتتجلى نزوة القذارة المالية لدى بعض القادة الأفارقة في ما يعرضه تحقيق الشرطة المالية للمكتب المركزي لردع الغش والتجاوزات المالية بأمر من القضاء الفرنسي، من ممتلكات يفتخرون ويفاخرون بها أثرياء باريس. والتحقيق أطلقته محكمة باريس قبل ستة أشهر بناء على شكاية حول تهريب وإخفاء أموال عمومية تقدمت بها ثلاث جمعيات هي «شيربا» و«البقاء» و«فيدرالية الوطنيين الكونغوليين» ضد الرؤساء الغابوني عمر بونغو، والبوركينابي بليز كومبوري، والأنغولي إيدواردو دوس سانتوس، والغيني تيودورو أوبيانغ، والكونغولي ساسو انغيسو. فمن ضيعات ممتدة على هكتارات إلى فنادق بملحقاتها الترفيهية المختلفة مرورا بالفيلات والسيارات الفاخرة والشقق المفروشة في أرقى الأحياء الباريسية، تعرض الشرطة المالية، في 34 محضرا من مئات الصفحات، لوحة مفصلة عن باريس الإفريقية، حيث رحاب هؤلاء القادة وأسرهم تفوح بألف عطر بينما شعوبهم تقبع في مستنقعات البؤس والتخلف والحرمان. وبما أنهم يتقنون جيدا لعبة الاستثمار ومعادلة العرض والطلب، اختار أصدقاؤنا الأفارقة الأحياء والضواحي الباريسية ذات القيمة الاستثمارية العالية، فنجد عمر بونغو وعقيلته وواحدا من أبنائه وأيضا عقيلة الرئيس البوركينابي في الدوائر 7 و8 و16 وهي من أرقى الدوائر وأكثرها اجتذابا للأثرياء المحليين والدوليين. وبها تم اقتناء فندق خاص يوم 15 يونيو 2007 بمبلغ يفوق العشرين مليار سنتيم (18،8 مليون يورو) باسم نجلين للرئيس الغابوني، عمر دونيس (13 عاما) وياسين كويني (16 عاما)، وعقيلته إيديث التي ليست سوى نجلة الرئيس الكونغولي. أما عقيلة وشقيق الرئيس الكونغولي وابن أخيه فيستمتعون برغد العيش في إقامة فاخرة بضاحية «نويي سور سين»، الضاحية التي يقطنها الرئيس الفرنسي ساركوزي وإن شد الرحال إلى قصر الإليزي. وأحصت الشرطة المالية للمكتب المركزي لردع الغش والتجاوزات المالية 33 من الممتلكات ما بين شقق وفنادق وإقامات في حوزة الرئيس الغابوني أو عائلته، و18 أخرى في ملكية الرئيس الكونغولي وأقاربه، كما كشفت عن 17 من الأملاك العقارية الفاخرة باسم الرئيس عمر بونغو الذي يمارس السلطة منذ أربعين عاما في بلد غارق في البؤس والفقر بالرغم من الثروات النفطية والخشبية التي يزخر بها. ويرصد التحقيق الذي تسربت محتوياته إلى بعض الصحف الفرنسية، بكثير من الدقة، العناوين الباريسية للرئيس الغابوني ونجله علي بونغو الذي هو أيضا وزيره في الدفاع منذ 1999. كما يكشف عن ممتلكات جان بينغ، الصهر السابق للرئيس ووزير الخارجية حاليا، وأنجال آخرين للسيد بونغو. وإذا لم يكن للقادة الآخرين نفس الإمبراطورية العقارية، فإن الشرطة تشير مع ذلك إلى الفيلا «المبهجة» للرئيس الكونغولي، والمنزل من تسع غرف لعقيلته أنطوانيت، والإقامة من عشر غرف لنجلهما دونيس كريستيل، والفندق الخاص من 15 غرفة مع مسبح داخلي في الدائرة 16 لنجلتهما جوليان. ويتوفر الرئيس الأنغولي دوس سانتوس، بنفس الدائرة، على أملاك متفاوتة القيمة، بينما يملك رئيس غينيا الاستوائية شقة من الفئة الرفيعة بالدائرة نفسها. وتنضاف إلى الأرصدة العقارية التي راكمها هؤلاء، ممن يتباهون اليوم بثروة مضمونة المردودية تؤمن لهم ملاذا مريحا في باريس وعواصم غربية أخرى عندما يحين موعدهم لذلك، الحسابات البنكية الضخمة والسيارات الفاخرة، حيث يمتلك نجل الرئيس الغيني لوحده ما يزيد عن عشرين سيارة اقتناها بمبلغ 5،7 مليون يورو (أزيد من ستة ملايير سنتيم) عن طريق تحويلات مالية قامت بها شركات وسيطة، حسب وثيقة الشرطة التي قذفت بها السلطات الفرنسية، للأسف، في خزانة المهملات تمهيدا لطيها نهائيا تحت ذريعة المصلحة العليا للبلاد. وبقرارها القاضي بوقف جميع إجراءات المتابعة واعتبار التحقيق القضائي مجرد نفخة في رماد، تكون فرنسا قد وجهت إشارة كارثية لأهالي إفريقيا بعد أن اغتالت كل أمل لديهم في الحصول على ما يستحيل الحصول عليه في بلدانهم، أي ملاحقة هؤلاء القادة بتهمة تهريب وإخفاء أموال عمومية. ولما كانت التصريحات الاجترارية في فرنسا أو في غيرها من الدول الغربية التي تتبجح باستقلالية القضاء، مجرد كلام تزويقي لا أساس له عندما يتضارب مع مصالحها، فإنه من الصعب بل من المستحيل على القضاء الفرنسي إصدار مذكرات الملاحقة أو القبض على رؤساء الدول أثناء مزاولة مهامهم، حتى وإن أثبتت التحقيقات تورطهم بشكل من الأشكال، ذلك أن المصلحة العليا لا تترك هامشا يذكر للسلطة القضائية. وتجد الجمعيات المشتكية نفسها أمام هذا الواقع القاضي أن الترسانة القانونية الخاصة بمكافحة الارتشاء ومعها مبدأ فصل السلط يصبحان مجرد شعار فارغ المضمون كلما تعلق الأمر بأهرام السلطة. وقد قررت اليوم رفع دعوى جديدة ضد مجهول قد تفضي تلقائيا إلى فتح تحقيق إذا لم يعارض ذلك قاضي التحقيق تحت الذريعة المألوفة: المصلحة العليا للدولة.