قليلة هي تلك السير الذاتية التي تعكس التاريخ مثلما تعكس سيرة حياة عبد الباري عطوان أحداث زمانه. فقد ولد عبد الباري عطوان في مخيم للاجئين في غزة عام 1950، التي غادرها في السابعة عشر من عمره ليصبح أحد أهم المعلقين الصحفيين في قضايا الشرق الأوسط في العالم. عطوان يروي بصدق وروح عفوية في هذا الكتاب قصة رحلته من أوحال مخيم اللاجئين إلى رأس هرم صحيفة «القدس العربي». خلال رحلته يصور عبد الباري عطوان الرعب الذي سببته مذابح المخيمات والنتائج غير المتوقعة للتدخل البريطاني في المنطقة. كما يروي المآسي التي واجهته جراء تنقله من بلد إلى آخر، والصدمة الثقافية التي أحس بها عندما سافر إلى لندن في السبعينيات. ويحكي أيضا لقاءاته الصحفية مع شخصيات سياسية مهمة مثل مارغريت تاتشر وأسامة بن لادن وياسر عرفات والعقيد القذافي وشاه إيران. كما لا يخلو الكتاب من روايات عن تجارب شخصية وإنسانية كان أكثرها تأثيرا تجربة لقاء أولاده بريطانيي المولد مع عائلته في المخيم. رغم أني غادرت مصر بطريقة بائسة ومزرية، فإن الوقت الذي قضيته فيها أحدث تغييرات جوهرية في شخصيتي وعلمني الكثير من الأشياء التي بقيت معي طيلة حياتي. كان الشعب المصري مصدرا للوحي والإلهام بالنسبة لي. كان هذا الشعب الطيب يواجه أصعب وأحلك الظروف بالنكات والضحك، ولعل هذا هو السبب في أن المصريين هم من أحسن الفنانين الكوميديين في العالم العربي. وبالنظر إلى تجربتي الخاصة في العيش مع المصريين، فإنني أستطيع القول بأنهم شعب صبور و مسالم – ما لم يتم استفزازه – كما أنهم أناس يتمتعون بكرم استثنائي. في العمق كان المصريون ميالين بشكل أساسي إلى العدالة الاجتماعية والاشتراكية. وكنت قد تعرفت هناك على إحدى الطرق المعروفة لدى المصريين في الادخار الجماعي أو ما كانوا يطلقون عليه اسم الجمعية (دارت في اللهجة المغربية)، حيث يجتمع مجموعة من الأشخاص ويساهمون بشكل دوري بمبلغ قليل من المال ليجتمع بعد ذلك مبلغ كبير يسلم لشخص من هؤلاء في نهاية كل دورة، وكان هذا المبلغ يستخدم في تمويل الأشياء باهظة التكاليف مثل مصاريف الأعراس والعلاج عندما تقتضي الحاجة ذلك. كنا وما زلنا نعمل وفق هذا النظام في صحيفة «القدس العربي»، وبهذه الطريقة كنا قادرين على مد يد المساعدة لزملائنا في العمل في كثير من المواقف. كرة القدم قبل الصحافة كنت أعشق كرة القدم وكنت في شبابي حارس مرمى جيدا، وقد فكرت وقت معين أن أصبح لاعبا محترفا بدلا من امتهان الصحافة. كان اثنان من رفاق الطفولة، هما عبد الرحيم فلاح وأبو جاموس، قد أصبحا بالفعل لاعبي كرة قدم محترفين في الأردن. كنا قد حظينا في المخيم ونحن أطفال بحظنا الوافر من التدريب على لعب الكرة، رغم أنه لم يكن لدينا آنذاك غير كرة واحدة بالية ومرقعة لكل مخيم على اتساعه. كنا نحن أطفال المخيم متعودين على لعب الكرة في أي مساحة فارغة، نجدها سواء كانت في الأرض القفار أو الكثبان الرملية. كما كنا دائما حفاة الأقدام. لا أعتقد أن أيا منا كان قد رأى حذاء حقيقيا لكرة القدم آنذاك. كما لم تمنعنا حقيقة أننا لم نكن نملك كرة قدم من اللعب. كنا نصنع كرة مكونة من جوارب قديمة وبالون وخيط. و كنا نحشو البالون وسط الجوارب ثم نربطه بالخيط وكنا نغطي ذلك كله بطبقات من الجوارب القديمة حتى نصل إلى شيء يشبه الكرة في شكله الخارجي. كان هناك صبي واحد في مخيم دير البلح يمتلك كرة قدم حقيقية. كان اسمه كمال وكان سليل إحدى العائلات الفلسطينية الغنية التي تعيش على أطراف المخيم. كان كمال أبعد ما يكون عن الكرم فيما يتعلق بكرة القدم هذه، وكان يستغل بشكل ماكر رغبتنا في لعب الكرة بحيث كنا نوافق على تلبية جميع طلباته مقابل ساعة من اللعب بكرته. وكان يسارع إلى استغلال حاجتنا الملحة إلى اللعب خاصة أنه كان لاعب كرة سيء ولم نكن لندعوه ليلعب معنا لولا امتلاكه تلك الكرة. عندما كان يرانا مجتمعين في الأرض الخلاء المقابلة للشاطئ ونحن نسجل الأهداف بكرتنا البدائية، كان يأتي حاملا كرته معه ويتظاهر كما لو أنه كان ذاهبا إلى مكان آخر. كنا نصيح به «السلام عليكم كمال!» فكان يرد علينا السلام ويتظاهر بإكمال طريقه، عندها كنا ندعوه إلينا ونقول:«كمال، تعال العب معنا الكرة» فكان يجيبنا بأنه عليه أن يذهب إلى منزل ابن عمه وفي أحيان أخرى كان يختلق أي عذر واه مثل الذهاب إلى بيت خالته أو أستاذه. كنا نغريه بالقول: «تعال يمكنك أن تكون كابتن الفريق» عندها فقط كان يدور على عقبيه ويوافق قائلا: « نعم...نعم، ولكنني يجب أن أختار فريقي بنفسي». كنا نصيح «بالتأكيد، نعم!» لقد كان الأمر يستحق التضحية باتخاذ قائد سيء للفريق إذا كان هذا يعني أننا سنلعب كرة قدم حقيقية. وفي الحقيقة، كان كل منا يتمنى ألا يختاره كمال للعب في فريقه لأن هذا كان يعني أن كل لاعب يجب أن يحاذر من الدوس على قدم كمال أو أن يحرجه كرويا. وبما أنني كنت حارس مرمى فقد كنت عاملا أساسيا في إستراتيجيتنا السرية للاحتفاظ بالكرة للعب. لم يكن كمال يختارني أبدا للعب في فريقه وكان علي أن أدافع عن المرمى الذي من المفروض أن يهاجمه هو. وكان كمال في مناسبات نادرة يشق طريقه إلى المرمى وكنت أنا طبعا أتظاهر بعدم قدرتي على التصدي لكراته، وبذلك كانت تنهال عليه التهاني من أعضاء فريقه لإحرازه الهدف، مما كان يشعره بالسعادة. لكن هذا الحال لم يستمر دوما، فقد كنت أحيانا أعيق الكرة من الدخول في المرمى أثناء تظاهري بعدم القدرة على الإمساك بها. كما أن الأمور لم تكن تسير على ما يرام عندما لا يستطيع أحد أعضاء فريق كمال التحكم في نفسه ويأخذ الكرة من بين قدميه بسبب بطئه ويمررها إلى أحد أعضاء الفريق السريعين. كانت تصرفات من هذا النوع تتسبب في أن نُحرم من اللعب بالكرة لأيام. بيد أن كل هذا القلق على الكرة والخطط التي كنا نحيكها للاحتفاظ بها، توقفت بتوقفنا عن اللعب نهائيا عندما احتل الإسرائيليون غزة. رجعت إلى كرة القدم في الجامعة مرة أخرى. وبما أن وزني قد ازداد في الأردن فقد أصبحت أقوى وأكثر لياقة جسمانيا مما كنت عليه في المخيم. وقد طُلب مني وقتها أن أنضم لفريق الجامعة و فريق الطلبة الأجانب، وكانت المعجزة بالنسبة لي هي أن أحصل لأول مرة في حياتي على حذاء لكرة القدم وقفازات حارس المرمى. في يوم من الأيام، كان علينا كفريق للطلبة الأجانب أن نخوض مباراة مع فريق من المشاهير أمام جمهور عريض في واحد من أكبر ملاعب القاهرة وهو ملعب نادي الزمالك. أتذكر أنه كان ضمن فريق المشاهير عدد من الموسيقيين والفنان الكوميدي سيد الملاح وعدد من الممثلين، بينهم محمود ياسين و نور الشريف. كان بعض هؤلاء المشاهير لاعبين جيدين، غير أن البعض الأخر كانوا لا يتمتعون باللياقة المطلوبة للعب وكانت أنفاسهم تنقطع من الجري في الملعب مرة واحدة دون حتى أن يلمسوا الكرة. إلا أن فريق المشاهير كان مدعما بعدد من اللاعبين النجوم من نادي الزمالك الذين كانوا يملؤون دكة الاحتياط. وإذا كان من الممكن أن أصف أدائي في المباراة، فيمكن أن أقول إن حراستي للمرمى كانت شجاعة: كانت ردات فعلي سريعة وحادة و كنت ألقي بنفسي في الهواء لالتقاط الكرة غير عابئ بسلامتي الشخصية. وبعد المباراة التي هزمنا فيها فريق المشاهير هزيمة ساحقة اقترب مني أحد أعضاء نادي الزمالك وسألني إن كنت أريد أن أتمرن مع لاعبي الاحتياطي في النادي. وافقت على عرضه وبدأت أتمرن مرتين في الأسبوع في نادي الزمالك. وبعد فترة عرض علي النادي عقدا مغريا، ولكنني كنت في سنتي الثالثة آنذاك وكان علي الدراسة بجد وكد. كما أن كرة القدم الاحترافية لم تكن مهنة مربحة في ذلك الوقت وكانت مؤقتة تعتمد أساسا على عاملي العمر واللياقة. كان هذا السبب بالخصوص عاملا في وضعي في مأزق عندما قرر ولدي خالد احتراف كرة القدم.