هناك العديد من الشخصيات التي ساهمت في صنع التاريخ المغربي، سلبا أو إيجابا، توارت إلى الخلف ولم تستعذب يوما لعبة الأضواء، ولأن التاريخ لا تصنعه الشخصيات «الشهيرة» فقط، فإن الكثير من المعلومات ضاعت في أتون الصراع السياسي والحسابات الشخصية. عبد الكبير العلوي الإسماعيلي، صاحب دار نشر منشورات «الزمن» الشهيرة، واحد من هاته الشخصيات، التي كان لها دور حاسم في قضية الصحراء في الكثير من المحطات، وإذا كان يرفض صفة «عميل المخابرات المغربية»، فإنه يؤكد أنه تعاون معها في الكثير من اللحظات الحساسة. على كرسي الاعتراف، يحكي العلوي الإسماعيلي أسرارا غاية في الحساسية عن قضية الصحراء ودور إدريس البصري وعلاقاته المتشعبة مع النظام الليبي، كما يتوقف عند لقاءاته بالملك الراحل الحسن الثاني، ويشرح كيف أخبره في إحدى الجلسات الخاصة أنه يتوفر على معلومات تؤكد قرب القيام بمحاولة انقلابية جديدة بالمغرب. – هل كنت حاضرا في الزيارة التي قام بها الملك الحسن الثاني إلى ليبيا؟ نعم كنت حاضرا، وأتذكر أن كل القيادات المدنية والعسكرية الليبية تنفست الصُّعداء عندما أخبرتها القيادة العسكرية في القاعدة الأمريكيةبطرابلس الغرب، ظهيرة يوم وصول ملك المغرب الحسن الثاني عام 1965 في زيارة رسمية إلى ليبيا. وحسب ما أخبرني به رئيس المخابرات العسكرية الليبية آنذاك، السيد نصر الدين هامان، اتصل المسؤولون الليبيون بنظرائهم المغاربة عدة مرات من أجل الحصول على معلومات دقيقة بخصوص وقت وصول الطائرة إلى الأجواء الليبية، إذ أن سرباً من الطائرات الليبية كان مقرراً أن يرافق الطائرة المغربية منذ دخولها الأجواء الليبية إلى مطار طرابلس، العاصمة الليبية. ومع تعذر ذلك، اضطر الليبيون إلى الاتصال بالقاعدة الأمريكية بليبيا التي زودتهم ب»الدقيقة والثانية» لوصول طائرة الملك الحسن الثاني. – الزيارة كانت قبل وصول القذافي إلى الحكم؟ نعم. لقد كان المطار مكتظاً بالمسؤولين الليبيين وبشرائح عديدة من أعيان طرابلس الغرب (الزاوية وغيرها) ومن جنوبها (ودان) ومن بنغازي واجدابيا. امتد الانتظار لساعات في المطار، وكان الجو حاراً ورطباً وأيضاً ملغوماً سياسياً… ذلك أن ليبيا كانت في تلك الفترة تتعرض لضغوط من عدة أطراف عربية وفي مقدمتها جمهورية مصر العربية، لكي تعترف هي أيضاً ب»ألمانيا الشرقية». لكن في المطار نفسه، كانت معادلات سياسية أخرى تُصاغ للإطاحة بالنظام الملكي في ليبيا، وذلك من تدبير مجموعة من الضباط الليبيين، كانوا قد أخذوا تكوينهم العسكري في المؤسسات العسكرية العراقية، وفي مقدمتهم رئيس المخابرات العسكرية الليبية، آنذاك، السيد نصر الدين هامان (من طرابلس الغرب) والجنرال جلال الدغيلي (من بنغازي). خلال فترة الانتظار، لاحظ الضباط الليبيون حرص السفير الأمريكي، الذي كان من بين المنتظرين، على مخاطبتهم واحداً واحداً والإطالة في حديثه مع بعضهم، بل وحسب ما ذكر لي نصر الدين هامان، حدد السفير مع بعضهم مواعيد للقاء. وأضاف أن المجموعة الليبية تأكد لها، من خلال المعلومات التي سبق الحصول عليها، أن الجانب الأمريكي كان على علم بما يُدَبره الضُباط الليبيون. وأضاف أن الضباط الليبيين أخبروا المصريين بما لاحظوه في المطار وباقتناعهم بأن الأمريكيين على علم بتحركهم. بعد حرب «الستة أيام»، اتصل الضباط الليبيون بالقيادة المصرية وطرحوا عليها سؤالاً واحداً محدداً: ماذا تريدون أن نفعل تضامناً معكم؟ وحسب المسؤول الليبي، جاء الجواب المصري صادماً: أحرقوا آبار البترول. اعتبر الليبيون الجواب المصري غير معقول ودعوة إلى تخريب ليبيا واقتصادها وأوقفوا الاتصال بالجانب المصري لمدة معتبرة. – كيف عرفت هذه المعلومات؟ أخبرني بها فيما بعد مدير المخابرات الليبية. كانت المخابرات المصرية دعت عند نهاية 1967م إلى استئناف الحوار. وفعلاً تم ترتيب لقاء في بنغازي بين مسؤولين مصريين رفيعي المستوى ونصر الدين هامان. لم يدم اللقاء طويلا، إذ انتبه نصر الدين إلى وجود «قلم تسجيل»، مثبتاً على جيب سترة رئيس الوفد المصري، فمد يده إلى القلم وأخذه. ومرة أخرى، لا تدوم القطيعة طويلاً بين الليبيين وجيرانهم المصريين، إذ أن مصر الراحل عبد الناصر كانت قد بدأت تخطط لحرب الاستنزاف ضد إسرائيل وكانت في حاجة إلى ليبيا على مستويين: الجانب العربي القومي داخل الجيش الليبي وأيضاً إلى الدعم المالي من المملكة الليبية. تم ترتيب لقاء جديد، وفي بنغازي نفسها، وقدم المصريون للجانب الليبي اقتراحاً بانضمام مجموعة الضباط الأحرار إلى تيار آخر يقوده عقيد في الجيش الليبي اسمه معمر القذافي. أجرى الضباط الأحرار، وكانت غالبيتهم عقلانية وغير متهورة، عدة تحريات ومراجعات للموقف وللوضع عامة، وخلصوا إلى قرار موحد، ألا وهو عدم الانضمام إلى مجموعة القذافي، وأيضاً عدم الوقوف أو التحرك ضده.