قليلة هي تلك السير الذاتية التي تعكس التاريخ مثلما تعكس سيرة حياة عبد الباري عطوان أحداث زمانه. فقد ولد عبد الباري عطوان في مخيم للاجئين في غزة عام 1950، التي غادرها في السابعة عشر من عمره ليصبح أحد أهم المعلقين الصحفيين في قضايا الشرق الأوسط في العالم. عطوان يروي بصدق وروح عفوية في هذا الكتاب قصة رحلته من أوحال مخيم اللاجئين إلى رأس هرم صحيفة «القدس العربي». خلال رحلته يصور عبد الباري عطوان الرعب الذي سببته مذابح المخيمات والنتائج غير المتوقعة للتدخل البريطاني في المنطقة. كما يروي المآسي التي واجهته جراء تنقله من بلد إلى آخر، والصدمة الثقافية التي أحس بها عندما سافر إلى لندن في السبعينيات. ويحكي أيضا لقاءاته الصحفية مع شخصيات سياسية مهمة مثل مارغريت تاتشر وأسامة بن لادن وياسر عرفات والعقيد القذافي وشاه إيران. كما لا يخلو الكتاب من روايات عن تجارب شخصية وإنسانية كان أكثرها تأثيرا تجربة لقاء أولاده بريطانيي المولد مع عائلته في المخيم. كان السكن في القاهرة و ما زال من أكبر مشاكل هذه المدينة. عندما انتقلت إلى القاهرة كان تعداد سكان المدينة قد بلغ 5 ملايين نسمة (هذا الرقم يعد لا شيء بالمقارنة مع 12 مليون نسمة الذين يصارعون الحياة للعيش هناك اليوم). أما بالنسبة للوضع الاقتصادي فقد كان جد صعب حيث إن الحرب قد أفرغت خزائن مصر و رفضت أمريكا بيع الحبوب بالدين في محاولة منها لإضعاف نظام جمال عبد الناصر. وكنتيجة لهذا التعسف، انهار برنامج ناصر للسكن الاجتماعي وأصبح التشرد ظاهرة واضحة في المدينة. في ذلك الوقت، أخذ الناس على عاتقهم بناء مساكنهم بأنفسهم في الأراضي الزراعية شمال المدينة - التي كان ملاك الأراضي الاستغلاليون يبيعونها - وفي الأراضي الصحراوية في الشرق. وهكذا انتشر ما يسمى اليوم بالعشوائيات كالفطر في ضواحي المدينة. لم يكن أحد وقتها يكترث بالحصول على إذن من وزارة التخطيط لبناء منزله ولم يكن أحد يطالبه بذلك. وبسبب عدم قدرة بعض العائلات على إتمام بناء منزل متكامل فقد كانت تلجأ إلى بناء كل طابق أو غرفة على حدة في البقعة الأرضية المخصصة لها وكانت النتيجة الحتمية لذلك هي كومة من المباني سيئة التصميم مكونة من ستة أو سبعة طوابق. كانت أولى الغرف التي استأجرتها في القاهرة تقع في أحد الأحياء العشوائية ويدعى حي إمبابة. كانت الأزقة بين المباني ضيقة إلى درجة أنه لو شب حريق في أحد المنازل سيكون من المستحيل على رجال المطافئ أن يدخلوا لمساعدة سكان الحي في إخماد الحريق. أما الطوابق الأرضية في الحي فكانت تعج بالمحلات، وكان الحي مليئا بأكوام القمامة التي كانت مرتعا للجديان والدجاج والقطط والكلاب الضالة، ولا داعي لذكر الجرذان التي كانت تعتبر الحي موطنها الأصلي. فوق الحي كانت حبال الغسيل تشكل خطوطا متوازية فوقنا، تنسدل منها الملابس الملونة عبر النوافذ تحت السماء الزرقاء. كان إمبابة حيا يستعصي الدخول إليه حتى بالنسبة إلى رجال الشرطة، فقد كان يعج بتجار المخدرات وكل أنواع المجرمين. وكانت هناك في الحي حروب طاحنة تنشب بين العصابات المتنافسة، وكانت حوادث الطعن وإطلاق النار أمرا شائعا. ورغم كل هذه الظروف الخطرة المحيطة بي في الحي، فقد وجدت الطريقة المثلى للعيش وسط هذه الأزقة المليئة بالإجرام. كانت هذه الطريقة هي كرة القدم. كرة القدم طريقة للنجاة كان الصراع في ذلك الوقت بين جمهوري فريقي القاهرة المشهورين – الأهلي والزمالك – صراعا محموما، لدرجة أن مباراة نهائي الكأس المصري في عام 1970 لم تكن لتكتمل بسبب أعمال العنف بين الحشود. وكنت في ذلك الوقت أشجع فريقا مغمورا كان يدعى نادي الترسانة. وفي يوم من الأيام، قام شاب ذو ملامح إجرامية بالتعرض لي وسألني عن انتمائي الكروي ولحسن الحظ أنني لاحظت أنه يضع شعار مشجعي نادي الأهلي، فقلت له: «لقد حان الوقت لانطلاقة الدوري، وأتمنى أن يُطحن أولئك الأوغاد الزملكوية». سر ذلك الشاب من جوابي وصافحني بدل أن يفعل ما كان يضمره لي من قبل. كانت لدي قدرة غريبة في إمبابة على معرفة أي فريق كان يشجعه مجرمو الحي، وكنت قادرا على إهانة الفريق الخصم بكل صدق. غير أنني في إحدى المرات أخطأت التخمين وكان ذلك سببا في أن يلاحقني مجرم ضخم الجثة في أرجاء الحي كله، ملوحا لي بعصاه. كان تحليلي لمباريات كرة القدم مطلوبا جدا في الحي وكان المكوجي (الكواء) –كان كواء الملابس رفاهية في ذلك الوقت – متعودا على المجيء إلي قبل كل مباراة تقريبا ليستمع إلى تحليلاتي وتنبؤاتي الكروية. وكان رفضه أخذ مقابل عن كواء كل الملابس التي أعطيها له لكيها سببا في كوني واحدا من أكثر الطلاب تأنقا في جامعة القاهرة في ذلك الوقت. جامعة المعارضة كانت جامعة القاهرة التي أنشئت في عام 1908 أقدم وأكبر جامعة علمانية عربية في الشرق الأوسط وقتها. وكان بناء الجامعة بحد ذاته تحفة تاريخية، وقد أحسست بفخر شديد وأنا أصعد تلك السلالم الرائعة وسط أعمدة هذا البناء الشامخ لأول مرة. كان ذلك في شهر أكتوبر من عام 1970 عندما التحقت بالجامعة لدراسة الآداب. كان عامي الأول في الجامعة يدور حول عدة دراسات عامة وكان علي تعلم اللغات أيضا، لكن بعد ذلك تخصصت في الصحافة و الإعلام على مدى ثلاث سنوات متتالية. كان هناك في الجامعة طلاب ينحدرون من كل العالم العربي، شبانا وشابات، يدرسون جنبا إلى جنب. لم تكن وقتها لترى طالبة محجبة. وكان كثير من الفتيات قد تبنين العادات الغربية في لباس التنانير القصيرة. أما الآن، فقد أصبح العكس هو الصحيح لأنك تكاد لا تجد فتاة إلا وتلبس الحجاب... هذا اللباس الذي أصبح رمزا لمشاعر مناهضة الغرب للبعض والإيمان بالفكر الإسلامي للبعض الأخر. كانت جامعة القاهرة مرتعا للنشاطات السياسية الثورية. كانت تلك الفترة في نهاية الستينيات فترة حاسمة تملؤها روح الحماسة. كما أنها شهدت الكثير من التغييرات في السياسة العالمية. ففي عام 1967 اندلعت المظاهرات في الولاياتالمتحدة ضد الحرب في فيتنام، وكان لهذه الحركة الجماعية دورها في تسخير طاقة الصراع من أجل الحريات المدنية في أمريكا. كما أن خطاب مارتن لوثر كينغ المؤثر كان مصدر إيحاء وأمل لجيل كامل من المقهورين حيث عزز لدينا الاعتقاد بأن التغيير ليس ممكنا فحسب، بل قادما لا محالة. كما كان إسلام بطل الملاكمة في الوزن الثقيل كاشيوس كلاي، الذي أصبح محمد علي، حادثة أثرت فينا كثيرا. وبعد سنتين من إعلان إسلامه اشتهر محمد علي برفضه الانضمام للجيش الأمريكي في حربه ضد فيتنام، مطلقا عبارته الشهيرة «لا أحمل أي ضغينة تجاه الفيتناميين. لم يطلق علي أي فيتنامي عبارة عنصرية من قبيل أيها الزنجي!» كما كانت النشاطات الثورية ذات الخلفية الماركسية اللينينية في أمريكا اللاتينية مصدر إيحاء كبير بالنسبة لنا كطلاب في الجامعة وقتها. لقد حول فيدل كاسترو كوبا إلى صرح للشيوعية على مشارف أمريكا وكان تشي غيفارا، رجل كاسترو القوي أشهر عميل محرض على الثورة أولا في إفريقيا – التي كان يصفها كاسترو بأنها أضعف حلقة في سلسلة الامبريالية – وبعد ذلك في بوليفيا حيث سيلقى تشي مصرعه على يد عملاء المخابرات المركزية الأمريكية في 9 من أكتوبر 1967، الأمر الذي أثار الاشتراكيين في العالم بأسره وضمن لغيفارا مكانته كرمز عالمي للثورة. كما وصلت حركة العصيان العالمي إلى فرنسا وباريس حيث تحولت المظاهرات الطلابية إلى ثورة عارمة انطلقت إلى الشوارع في ماي 1968. في ذلك الوقت احتل الطلبة جامعة السوربون وحولوها إلى مقر للجنة الثورية وانضم إليهم 10 ملايين عامل عبر التراب الفرنسي في إضراب تعبيرا منهم عن التضامن مع الطلبة. أتذكر هذه الأحداث التي قرأت عنها وأنا في الأردن و أتيحت لي الفرصة لأراها رأي العين في التلفاز -في منزل صديق ثري- وكنت أشاهد بإعجاب شبابا في مثل عمري وهم يضعون الحواجز على الطرق وينخرطون في معارك مع رجال الشرطة. وبما أنني كنت فلسطينيا فقد كان أقرب من المستحيل أن لا انخرط في العمل السياسي. كان الاعتقاد في ذلك الوقت بأن الفلسطيني يجب أن يكون ثوريا، لأن الجميع كانوا يحاربون من أجل القضية الفلسطينية. كانت كل مظاهرات الطلبة في القاهرة تدعم الفلسطينيين وتناهض إسرائيل، كما كان لأمريكا نصيبها هي الأخرى من عبارات الاستنكار و التنديد.