في ظل التطورات السريعة التي يعرفها عصرنا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، تزداد مشكلات التربية والتعليم تعقيدا وتصبح تحديا مزمنا بالنسبة إلى صانعي القرار، إذ تظهر حاجات جديدة وتختفي أخرى وتصبح الأنظمة التربوية بمناهجها وبرامجها متجاوزة خلال زمن قياسي، فالثورة المعرفية والتكنولوجية تسير بمعدل سرعة رهيب حيث المعارف الإنسانية تتضاعف كل سبع سنوات. وعليه فلا بد للأمم التي تريد أن يبقى لها مكان تحت الشمس أن تحتفظ بفاعلية وراهنية وقوة نظامها التعليمي وتضمن قدرة استمراريته على خوض غمار التنافسية والإنتاج والتنمية، الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق إلا وفق رؤية واضحة تستدعي المواكبة والملاحقة والتجديد. هذه الرؤية لا بد أن تنطلق من نتائج وخلاصات البحث العلمي التربوي. لقد كان البحث التربوي حاضرا بقوة في تاريخ المجتمعات التي حققت طفرات حضارية، فالنهضة الأوربية واكبتها حركية تربوية قادها باحثون كبار مازالت نظرياتهم واكتشافاتهم تشكل أسسا علمية يهتدى بها في مجال التربية والتعليم ،هل يمكن أن نتخيل نهضة أوربا دون روسو وبياجي ودوركايم وغيرهم؟ هل يمكن الحديث عن المدرسة الأمريكية دون العلامة جون ديوي؟ بفضل أبحاث هؤلاء تطورت وظائف المدرسة وصارت قاطرة للتنمية الشاملة. ومازالت الجامعات في الغرب تمنح للبحث التربوي الأهمية والحساسية نفسهما اللتين تمنحهما للبحث في مجال البرمجيات أو مجال التسلح العسكري، فالتجديد التربوي للدول المتقدمة يرتبط بالأمن القومي، ولذلك فبعض نتائج البحث التربوي المتعلقة بتطوير المنظومات التعليمية والرفع من جودتها تعتبر من أسرار الدولة باعتبار المدرسة وسيلة لإنتاج الثروة وضمان السبق المعرفي والاقتصادي وقيادة العالم... يتضح مما سبق أن البحث التربوي ليس ترفا فكريا أو أكاديميا، «إن التفكير في التعليم هو تفكير في المآل والمصير»، على حد تعبير الباحث محمد جسوس، وهو استعداد مستمر لمواجهة المشكلات وإيجاد البدائل. من مرحلة اتخاذ القرارات حول السياسة التعليمية إلى الأنشطة الصفية داخل الحجرات الدراسية يعطي البحث التربوي المصداقية والشرعية للتجديد والإصلاح، ويضمن الانخراط السلس للفئات المكلفة بالتنفيذ والتطبيق، لكن شرط أن ينطلق من حاجات حقيقية ذات طابع وطني بالدرجة الأولى يكون قد حصل حولها الإجماع بالتشاور والتفاوض، بذلك سنتأكد من أن الإصلاح المرتكز على أسس البحث العلمي لن يخضع للمصالح الضيقة سواء كانت سياسية، حزبية أو أيديولوجية أو شخصية... بالإضافة إلى تطوير المناهج والبرامج وتقويمها وتكييفها مع المستجدات، يضطلع البحث التربوي بإحدى أهم وأخطر المهام التي لا يمكن للمنظومات التي تحترم نفسها أن تهملها، ألا وهي الوظيفة الإستباقية للبحث التربوي التوقعي الذي يستشرف المستقبل ويخطط للتطلعات والمفاجآت ضمانا للأمن الاجتماعي والاقتصادي للوطن. هل يعقل مثلا أن تصل نسبة الأميين في بلادنا إلى ما يقارب 50 في المائة مقابل 4 في المائة من حملة الشواهد العليا معظمهم يصبح عاطلا بعد التخرج؟ وإذا كان مجال التربية والتعليم في مجتمع معين تتقاطع فيه المجالات الاجتماعية والاقتصاية والثقافية والسياسية، فمن هنا تبرز خصوصيته الوطنية، إذ يصبح الاشتغال عليه من هذه الزاوية ضرورة تقتضيها الحكامة الجيدة والتدبير المعقلن. وعليه فالبحث التربوي الذي سيكون له عائد ملموس على الإصلاح ليس هو ذاك الذي يفوت لمكاتب دراسات أجنبية تجهل حقيقة المطبخ الداخلي للشأن التربوي. إن وزارة التربية الوطنية في بلادنا تتوفر على جهاز يرتبط بكل ما يتعلق بالتربية والتعليم ومهمته بقوة القانون هي الرصد والتتبع والتقويم والاقتراح والبحث العلمي المتخصص في الشؤون التربوية. إنه جهاز التفتيش التربوي، ليس هناك جهاز أكثر استيعابا ومواكبة منه للعمل البيداغوجي داخل قاعة الدرس، تلك العلبة السوداء التي تتحكم، صدقنا أم لم نصدق ذلك، في مفاتيح الإصلاح... إن أقل ما يقال عن مكاتب الدراسات التي باتت تخطط لمجال التربية والتعليم أنها تنجز عملا تقنيا باردا لا روح فيه ولا تسري فيه حرارة التفاعلات المعقدة التي هي من سماته البنيوية ويغلب على عملها طابع السوق ولغة التسويق، كما يحدث في مجال السلع والبضائع وكلما دققنا في مخططاتها كلما أمسكنا بخيوط الغربة التي تربطها بمجال لا تملك أدواته الحقيقية لكي تفتي فيه رغم الشعارات الكبيرة.. فهل نعيد الاعتبار إلى أهل الدار، لأنهم أدرى بشعابها وننال بذلك الحسنتين معا؟ وذلك باستثمار طاقات مؤهلة يطالها التهميش وتوفير ميزانيات ضخمة... تصرف لفائدة مكاتب الدراسات..؟