بلغة صريحة ومباشرة، وجه الملك محمد السادس في خطاب العرش نقدا قاسيا جدا إلى الدبلوماسية المغربية معترفا بمكامن الخلل فيها. ولم يتوان الملك في «جلد» قناصل المملكة في الدول الأجنبية قائلا في هذا الصدد: فبعض القناصلة، وليس الأغلبية، ولله الحمد، عوض القيام بعملهم على الوجه المطلوب، ينشغلون بقضاياهم الخاصة أو بالسياسة. وقد عبر لي عدد من أبناء الجالية عن استيائهم من سوء المعاملة ببعض القنصليات، ومن ضعف مستوى الخدمات التي تقدمها لهم، سواء من حيث الجودة أو احترام الآجال أو بعض العراقيل الإدارية. وهنا نثير انتباه وزير الخارجية إلى ضرورة العمل، بكل حزم، لوضع حد للاختلالات والمشاكل التي تعرفها بعض القنصليات. وواصل الملك انتقاده اللاذع للقناصلة المغاربة بالقول «فمن جهة، يجب إنهاء مهام كل من يثبت في حقه التقصير أو الاستخفاف بمصالح أفراد الجالية أو سوء معاملتهم. ومن جهة أخرى، يجب الحرص على اختيار القناصلة الذين تتوفر فيهم شروط الكفاءة والمسؤولية، والالتزام بخدمة أبنائنا بالخارج». الخطاب الذي بدا صارما في مضامينه أفرد حيزا كبيرا للحديث عن قطاع التعليم، إذ توقف الملك عند إشكالية تدريس اللغات التي أثارت الكثير من الجدل خلال الشهور الماضية مبرزا في هذا السياق: « كلفنا المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بتقييم تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وبلورة منظور استراتيجي شامل لإصلاح المنظومة التربوية ببلادنا». وأضاف الخطاب في سياق الحديث عن ثنائية التعليم الخاص والعام:» ولفهم ما ينبغي أن يكون عليه الإصلاح، نطرح السؤال: هل التعليم الذي يتلقاه أبناؤنا اليوم، في المدارس العمومية، قادر على ضمان مستقبلهم؟ وهنا يجب التحلي بالجدية والواقعية، والتوجه للمغاربة بكل صراحة: لماذا يتسابق العديد منهم لتسجيل أبنائهم بمؤسسات البعثات الأجنبية والمدارس الخاصة، رغم تكاليفها الباهظة؟ الجواب واضح: لأنهم يبحثون عن تعليم جيد ومنفتح يقوم على الحس النقدي، وتعلم اللغات، ويوفر لأبنائهم فرص الشغل والانخراط في الحياة العملية. وخلافا لما يدعيه البعض، فالانفتاح على اللغات والثقافات الأخرى لن يمس بالهوية الوطنية، بل العكس، سيساهم في إغنائها، لأن الهوية المغربية، ولله الحمد، عريقة وراسخة، وتتميز بتنوع مكوناتها الممتدة من أوربا إلى أعماق إفريقيا». وبخلاف خطابات عيد العرش السابقة، قدم الملك نقدا ذاتيا لسياسة المغرب في تنمية العالم القروي، معلنا أنه كلف وزير الداخلية محمد حصاد بإحصاء كل دواوير المغرب وإعداد مخطط لتنميتها وفق حاجياتها المستعجلة. وقال الملك في خطابه: « ورغم التطور الذي حققته بلادنا، فإن ما يحز في نفسي، تلك الأوضاع الصعبة التي يعيشها بعض المواطنين في المناطق البعيدة والمعزولة؛ وخاصة بقمم الأطلس والريف، والمناطق الصحراوية والجافة والواحات، وببعض القرى في السهول والسواحل. إننا ندرك حجم الخصاص المتراكم، منذ عقود، بهذه المناطق، رغم كل المبادرات والمجهودات» مسترسلا في الآن نفسه» لذا، عاهدنا الله، منذ تحملنا أمانة قيادتك، شعبي العزيز؛ أن لا ندخر أي جهد من أجل تحسين أوضاع سكان هذه المناطق، والتخفيف من معاناتهم. ولهذه الغاية، وتعزيزا للمبادرات التي سبق إطلاقها، قررنا تكليف وزير الداخلية، بصفته الوصي على الجماعات الترابية، للقيام بدراسة ميدانية شاملة، لتحديد حاجيات كل دوار، وكل منطقة، من البنيات التحتية، والخدمات الاجتماعية الأساسية، سواء في مجال التعليم والصحة، أو الماء والكهرباء والطرق القروية وغيرها. وقد شملت هذه الدراسة كل جهات المملكة، حيث تم تحديد أزيد من 29 ألف دوار، في 1272 جماعة تعاني من الخصاص؛ ثم وضع المناطق والمجالات حسب الأسبقية. وعلاقة بتدبير الشأن الديني بالمغرب، قال الملك محمد السادس إنه ينبغي على المغاربة أن لا يقبلوا نموذجا دينيا دخيلا مؤكدا في خطابه: «فهل هناك سبب يدفعنا للتخلي عن تقاليدنا وقيمنا الحضارية القائمة على التسامح والاعتدال، واتباع مذاهب أخرى لا علاقة لها بتربيتنا وأخلاقنا؟ طبعا لا. فلا تسمح لأحد من الخارج أن يعطيك الدروس في دينك. ولا تقبل دعوة أحد لإتباع أي مذهب أو منهج، قادم من الشرق أو الغرب، أو من الشمال أو الجنوب، رغم احترامي لجميع الديانات السماوية، والمذاهب التابعة لها. وعليك أن ترفض كل دوافع التفرقة. وأن تظل، كما كنت دائما، غيورا على وحدة مذهبك ومقدساتك، ثابتا على مبادئك، ومعتزا بدينك، وبانتمائك لوطنك».
عبد العزيز أفتاتي: الخطاب الملكي كان جريئا في الحديث عن مشاكل العالم القروي أعتقد أن الخطاب الملكي كان جريئا جدا خاصة عندما تحدث عن مشاكل العالم القروي، إذ اعترف بالهشاشة التي تطبع بعض المناطق في المغرب، والخطاب الملكي كان واضحا جدا مما يحتم على المسؤولين في كل المواقع أن يأخذوا العبرة منه. على العموم يمكن القول إن توجهات الخطاب كانت مبنية على التعليم والدبلوماسية في علاقاتها مع مغاربة العالم، وهي المواضيع الآنية التي تثير نقاشا واسعا في المجتمع لكن الحديث عن التعليم يشكل بالنسبة لي أهمية خاصة لأن إصلاح التعليم صار ضرورة ملحة.
عبد الوهاب الرامي: الخطاب قلص الحديث عن المنجزات إن ما يطبع خطاب العرش لهذه السنة (2015) انفتاحه على الفعل الموجه نحو المستقبل، وهي سمة يتميز بها كل خطاب براغماتي يروم المقاربة الواقعية للتحديات المجتمعية القائمة. وتتجلى الواقعية، هنا تحديدا، في تقليص مساحة الحديث عن المنجزات لصالح الخوض في التحديات التي تشغل بال عامة المواطنين لكونها تعنيهم بشكل ملموس. كما أنه لم يتم الحديث عن المنجزات كشيء مطلق، كما في منطق الخطاب الشعبوي الذي يضيق بالنسبية، بل كسيرورة مفتوحة على التجويد عبر فعل تشاركي من الفاعلين. ويمكن القول هنا إن الخطاب الملكي لم يكن ماكرو-سياسيا، يقوم على سرد الاصطلاحات المغرقة في التجريد، أو المستعصية على أفهام غير المتخصصين، أو يخوض فقط في العناوين العريضة للمضامين التي يبسطها. وعامة، نلاحظ أن البنية العميقة للخطاب الملكي تعتمد الخطاطة التالية: التذكير بمبدأ التعاقد بين الملك والشعب، تبيان جدوى هذا التعاقد، رسم الأولويات المجتمعية، تصوير الوضع أو المشكلة أو التحدي، ثم تقديم الحل المعتمد مع التسطير على مسؤولية الأشخاص والمؤسسات من أجل الخروج من الوضع الذي يرسم الخطاب طرق تجاوزه. وبهذا المعنى فالخطاب الملكي يقرب السياسة بمفهومها العام من المواطنين. كما يبدو، من جانب آخر، أن خطاب العرش أضحى منطلقا للأوراش الكبرى، ولم يعد توجيهيا عاما بل أصبح أقرب إلى الخطة التفصيلية، التي تنطلق من الحصائل للبدائل، وهو ما يجعل مضامينه قابلة للتقييم على مستوى الإنجاز. وإذا نظرنا إلى محتويات الخطاب، نلاحظ أنها تلامس الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين الذين يعيشون حالة هشاشة، كما تؤكد انتماء المغاربة إلى هوية مغربية منفتحة يطبعها الاعتدال العقدي، وتؤشر على الكرامة كمعطى أساس يجب أن يتبطن تصور السياسيات العمومية تجاه المواطنين. وعلى الرغم من عرضه لجملة من التحديات، ظل الخطاب الملكي تحفيزيا في صيغه الأسلوبية، وفي طريقة عرضه لهذه التحديات والإجابات التي يقدمها في شكل خارطة طريق جاهزة للتطبيق.
ابن سعيد يدر: التوشيح يعني شيئا واحدا: هذه البلاد لا تنكر أبناءها التوشيح اعتراف ملكي ومن الدولة ليس بابن سعيد آيت يدر فقط، بل بجزء كبير من المجتمع المغربي ضحى في سبيل هذه البلاد. أنا سعيد جدا بهذا التوشيح لأنه يعطي إشارات إيجابية جدا بأنه لا يكفي الاقتراب من السلطة والانخراط كي تنال الاعتراف. أتمنى صادقا أن يشمل التوشيح الملكي في السنوات المقبلة شخصيات مغربية ساهمت بشكل كبير في بناء مسار هذا البلد وفي الدفاع عن مؤسساته وعن قضاياه، دون أن تستحضر يوما حسابات سياسية ضيقة. التوشيح الملكي يؤكد شيئا واحدا هو أن هذه البلاد لا تنكر أبناءها.
التوشيحات..الكفاءة أولا وحملت التوشيحات الملكية دلالات سياسية وعلمية كبيرة، إذ لم يكن يتوقع أحد أن يحظى ابن سعيد آيت يدر، أحد أشهر معارضي الملك الراحل الحسن الثاني، بالوسام الملكي. القراءة الأولى في هذا التوشيح تقول إن توجها جديدا بدأ يتبلور داخل الدولة حول التعاطي مع معارضيها ومعارضي سياساتها، وإذا كان آيت يدر قد خاض حربا طويلة الأمد مع نظام الملك الراحل الحسن الثاني وزج به في السجون، فإن ما كان تضييقا بالأمس وبحثا عن التموقع في صراع محموم مع الملكية تحول اليوم إلى مجد شخصي بالنسبة لآيت يدر. لم يعد مهما، حسب هذه القراءة، التزلف إلى المخزن والتودد إليه للحصول على رضاه. الملك، بهذا التوشيح، يريد أن يبعث برسالة واضحة إلى مكونات المشهد السياسي المغربي مؤداها أن نيل الاعتراف قد يجد له شرعية خارج التعبيرات السياسية التي تتحرك داخل الحقل السياسي، بمعنى أن معارضة الدولة والأحزاب السياسية وعدم الانخراط في مشروعها السياسي والمجتمعي لا يعني بتاتا أن الدولة لا تعترف بهذه الحساسيات ولا تنصت إلى ذبذباتها. وقد ينطوي التوشيح أيضا على رسالة أخرى بأن الأحزاب السياسية الموجودة الآن، والتي تقدم نفسها على أنها تتوفر على مشروعين سياسيين متناقضين: الأول إسلامي يقول إنه يمتلك شرعية الشارع والثاني حداثي يقول إن المد الإسلامي الأصولي ليس في مصلحة المغرب، تستدعي دخول حساسيات جديدة على خط التدافع السياسي حتى وإن لم تكن تتقاطع مع الدولة. التوشيح يقترن بالاعتراف بالكفاءة، ربما تختصر هذه الجملة كل القراءات التي قد تحملها التوشيحات الملكية، ففي الوقت الذي كانت توجه فيه انتقادات إلى القيمين على الاختيار في السنوات السابقة، فإن التوشيحات الحالية اعترفت بكفاءة مغاربة يشتغلون في مجالات علمية دقيقة بالإضافة إلى الاعتراف بالمبادرات الشخصية ذات الصيت العالمي. وهي التوشيحات التي تعطي الانطباع أن التوشيح في السنوات المقبلة سيكون مرتبطا بالكفاءة وبتمثيل المغرب في المراكز والجامعات العلمية العالمية. وفيما يشبه حسما للجدل الكبير الذي استعر في أروقة المجلس الأعلى للتربية والتكوين، قال الملك محمد السادس في خطابه إن قضية اللغة لا تطرح أي مشكلة هوياتية كما يريد أن يصورها البعض في إشارة واضحة إلى التيار الواسع الذي هاجم التدريس باللغتين الفرنسية والإنجليزية. الخطاب الذي يأتي قبل المصادقة على التقرير الذي تقدم به رئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين، رسم بعض الخطوط الكبرى التي يمكن أن تسم إصلاح المنظومة التعليمية في السنوات القادمة بعد استنفاذ عشرية ميثاق التربية والتكوين. قبل صدور التقرير تبدو معالم الإصلاح واضحة الآن: إصلاح التعليم العمومي وعدم اعتبار التعليم الخصوص بديلا له، الحسم في تدريس اللغات، الاهتمام بالتخصصات العلمية والتقنية، والتشجيع على الولوج إلى التكوين المهني.