«لا شيء يضيع في طوكيو»، هكذا افتتح «أحمد الشقيري» أحد أقوى حلقات «خواطر 5» والتي أجرى فيها مقارنة جريئة وصادمة بين احترام الأمانة وممتلكات الغير باليابان وبين سلوك مماثل بكواكبنا السعيدة.. أخذ محفظة وضع بداخلها مبلغا ماليا وتركها على أحد الكراسي وسط طوكيو، وظل يتابع ما يحصل عبر عدسة الكاميرا.. مشهد رائع كأنك بالمدينة الفاضلة: امرأة رفقة زوجها وصغيرها تجد المحفظة تلتفت عبر كل الجهات وهي تلوح بها، يحمل الأب الطفل ويتوجهان إلى خريطة حائطية يبحثان عن وجهة ما، ثم يمشيان لمسافة لا بأس بها قبل الدخول إلى مخفر للشرطة حيث تركا الحقيبة ورحلا. وقد تابعنا رفقة طاقم البرنامج كيف ضاعت الحقيبة وعادت إلى جيب صاحبها بسلام وهي تحمل نفس المبلغ الذي ظل بأمان داخلها. غيرت نفس الحقيبة المكان وسافرت إلى كوكب آخر بإحدى الدول العربية وأرادت أن تلعب نفس اللعبة، لكن هيهات.. ليست كل المدن طوكيو.. وضعت الحقيبة على أحد الكراسي على حافة اليأس والفقر والجهل والسرقة والتذمر، مر شابان بمحاذاتها فالتقطها أحدهما في حركة سريعة دون أن يتوقف أو يلتفت وفتحها لتلمع على شفاههما ابتسامة النصر بعدما لمحا النقود بداخلها وابتعدا كأنهما كسبا غنيمة والبقية تعرفونها. «كل شيء يضيع بالدار البيضاء»، هكذا كان «الشقيري» سيعنون الحلقة لو حدث أن صورها هنا حيث كل شيء يسرق حتى أتفه الأغراض: الحقائب والهواتف والحواسيب والدراجات والملابس والمأكولات، الكهرباء وحديد سكك القطار.. كل شيء! وإن حصل وضاع منك غرض ما فإنك تودعه للتو وتعتبره في عداد ما فُقد دون حسرة ولا شكوى ولا طمع في عودته سالما إلى حضنك. الغريب أن هذا السلوك عام لا يخص المحتاجين أو المشردين فقط، بل ربما أصبحت تلك السرقات «عادية» لا تشد الانتباه لأن هناك خيانات أعظم.. سرقة المال العام وما يقدمه دافعو الضرائب، سرقة الميزانيات المخصصة لبناء الوطن، سرقة المنح والمساعدات المادية التي تدعم التعليم والصحة والنقل.. الكل يسرق إلا من رحم ربك، الكل يحتال، الكل ينهش جسد البلاد حتى أصبحت خيراتها وكنوزها وأراضيها مستباحة، وأصبح الخونة أسيادا للوطن، وضاعت الأمانة والعفة وأخلاقيات المهن، وأصبحت كلها مفاهيم بالية كل من نادى بها يتهم بالسطحية والشعبوية والتخلف. إنه زمن اختلت فيه الموازين والمفاهيم والقيم، فأصبح قانون الغاب هو دستور العباد.. الغلبة للسارق. هناك بطوكيو تعود الأمانات إلى أهلها لأن لا أحد مضطر إلى السرقة، لأن الناس تحب بلدها بصدق وتحيا فيه بكرامة وتعامل بكرامة ولا تشعر بالظلم أو بأن عدوا لامرئيا يسلبها أرزاقها، هنا الكل يسرق في انتقام غير مفهوم من الوطن، وفي رغبة لدى الضعيف في استرداد ما سلبه القوي، وظمإ لا يرتوي لقوي ألف الكسب الحرام، ولا أحد يسأل: من أين لكم هذا؟ من سمح لكم بهذا؟ وإلى أين تسحبون البلاد بعد أن جردتموها من خيراتها وتركتموها غارقة في أوحال المخدرات والإجرام والجهل والفقر والدعارة.. لقد أصبح اللصوص أعيانا، العزة لمن يسرق أكثر.. أصبح الناس مصاصي دماء، كل يأخذ ما استطاع، حتى أموال اليتامى والبسطاء بالخيريات والمساعدات الاجتماعية والخاصة بالطوارئ كالزلازل والفيضانات تسرق.. الأغطية والأفرشة والأدوية والمحفظات والوجبات الغذائية.. كل شيء! كأن البلد ليس لنا، والمواطنون ليسوا إخواننا وجيراننا وأحبتنا، نسطو عليه كأنه بلد عدو اجتحناه بعد حرب طويلة كل بسلاحه.. كأننا ماغول وتتر جدد.. أو ربما أفظع.. يتبع