أطلق حزب الاتحاد الاشتراكي، قبل أيام، جملة من الفعاليات احتفاء بالذكرى ال50 لتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على أساس أنه استمرار له و ل»حركة التحرير الشعبية»ّ!.. ومن أهم ما يستوقف المتتبع لهذا الاحتفال، التعامل الانتهازي مع تاريخ هذا الحزب وتضحيات قادته ومناضليه. و لعل الجميع يتذكر النقاش العاصف الذي أثارته رسالة الفقيه البصري المشهورة؛ ذلك أن تعامل الاتحاد الحكومي مع الإرث النضالي هو من قبيل «أكل الغلة وسب الملة». فتضحيات المناضلين على مدى عقود هي مفخرة في بعض المجالس واللقاءات، لكنها «بلانكية» ومغامرة في نقاش الحقائب وكراسي الوزارة مع الدولة! في هذه الحلقات وقفة عند صفحات من تاريخ الاتحاد. سأل رئيس المحكمة قائد انقلاب عسكري فاشل: - من هم شركاؤك؟ فأجاب: - أنت، السيد الرئيس، وكذا السادة المستشارون ومسؤولو القوات الأمنية المحيطون بنا وكل الحاضرين لو أن الانقلاب قد نجح. فالثورات والانقلابات الناجحة يتعاطف معها الجميع ويتهافت على تبني أبوتها الانتهازيون من القادة، أما المتعثرة منها فيتيمة وينفض الجميع من حولها كما هو الحال مع «حركة مارس 1973»، التي استحالت إلى مجرد «أحداث 73»، أو «حوادث مولاي بوعزة» أو ملف «دهكون ومن معه» أو ما شابهها من التسميات الفاترة التي ظلت تتحدث عما جرى في مارس 1973 بالمجالس الخاصة والندوات السياسية قبل نقاشات السنوات الأخيرة التي ركزت بالدرجة الأولى على الجانب الحقوقي في هذه القضية. وقبل صدور كتاب «أبطال بلا مجد» باللغة الفرنسية ثم ترجمته باللغة العربية قبل أربع سنوات، فإن «أحداث 1973» بالنسبة إلى شباب المغرب، الذين لم يعيشوا هذه الفترة، بقيت من أهم البياضات (Lacunes) التي يلفها الغموض في تاريخهم السياسي الحديث، ذلك أن الكلام عن هذه الفترة كان محرما حتى داخل الحزب المعني الأول بهذا التاريخ: الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (USFP). ففي حوار (كانت له حكاية خاصة) لكاتب هذه السطور مع سيدي حمو (قائد كومندو تنغير، إقليمورزازات) فور دخوله من المنفى الذي قضى به أزيد من عشرين سنة هروبا من الإعدام المحكوم به غيابيا، شدد القائد الميداني البارز (وهو من قدماء رجال المقاومة وأعضاء جيش التحرير بالأطلس الكبير) على سخف مناقشة ما وقع سنة 1973 بمعزل عما سبق من أحداث متلاحقة منذ «الاستقلال المجهض» منتصف الخمسينيات؛ بل إن هذا المقاوم الشرس، الذي حمل السلاح وهو يافع أول مرة في معركة بادو سنة 1933، يعيد جذور «أحداث 73» إلى ثورة زايد أو حماد وحرب عصاباته قبل استشهاده في تنغير سنة 1936 وثورة بن عبد الكريم الخطابي قبل ذلك بسنين. إن ما حدث في مارس 1973 هو بالنسبة إلى سيدي حمو (ورفاقه) استمرار ل«حرب التحرير الشعبية» التي عرفت انتكاسة كبرى بعد حل جيش التحرير وإجهاض مشروع المغرب الجديد الذي بدأ بناؤه مع حكومة عبد الله إبراهيم التي تمت إقالتها في ماي من سنة 1960، تاريخ تولي الحسن الثاني مقاليد السلطة من موقع ولي العهد ورئيس أركان الحرب العامة ونائب رئيس الحكومة الجديدة التي ستحكم السيطرة على أجهزة الدولة الإكراهية بعد تنصيب أحد أهم ضباط الجيش الفرنسيين وقتها على رأسها كمدير عام للأمن الوطني خلفا لمحمد الغزاوي وفق مخطط «إسير هاريل» مؤسس الموساد، ونقصد الجنرال الدموي محمد أوفقير؛ هذا المخطط الذي فصل الحديثَ فيه عميلُ المخابرات أحمد البخاري في اعترافاته المعلومة. لقد كان هذا المخطط يقضي بإقالة حكومة عبد الله إبراهيم والسيطرة على الأجهزة تحت رئاسة قدماء الضباط من الجيش الفرنسي لضمان الشراسة اللازمة لخنق القوى التقدمية وتأثيث الحياة السياسية بالمحافظين المنساقين لمصالح الاستعمار وتحييد أي تعاون مع الثورة الجزائرية المستعرة حينها والتي كانت تتم قنبلتها انطلاقا من القاعدة العسكرية الفرنسية بتازة. إن أصل ما وقع في مارس 73 هو هذا الأساس التاريخي لتصادم مشروعين لمجتمعين في مغرب ما بعد الاستقلال؛ من جهة مشروع مغرب يبني أسس النهضة والتحرر من الهيمنة الاستعمارية ومن التبعية الاقتصادية الذي حملته حكومة عبد الله إبراهيم ووزير اقتصاده عبد الرحيم بوعبيد مستندا إلى الدعم الجماهيري الواسع من عمال وفلاحين (أ.م.ش) وشباب متقد حماسا (ا.و.ط.م) وأطر ورجال المقاومة وجيش التحرير بقيادة أول سكرتير للجنة السياسية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، محمد الفقيه البصري؛ ومن جهة أخرى مشروع مخطط «إسير هاريل» وضباط الجيش الفرنسي والمخابرات الأمريكية. ذلك أن ما تلا ماي 1960 من محطات هذا الصراع من مصادمات بين النظام السياسي والاتحاد الوطني للقوات الشعبية وغيره من القوات الحليفة له هو، بهذا الشكل أو ذاك، تعبير عن هذه التناقضات التي ستبلغ مداها عقب أحداث مارس 1965 وإعلان حالة الاستثناء واغتيال قائد الاتحاد الوطني والزعيم الأممي المهدي بنبركة، وكذا تعمق الفساد الإداري والمالي الذي عمق التناقضات حتى داخل التحالف الحاكم، فأنتج المحاولتين الانقلابيتين اللتين لن تكونا بعيدتين عن حزب الاتحاد ولاسيما المحاولة الأخيرة التي كشفت رسالة الفقيه البصري الشهيرة وكذا بيان الدكتور عمر الخطابي النقاب عن تفاصيلها والدور الأساسي فيها للقيادة الاتحادية، السياسية منها والعسكرية على السواء. يتبع