ممن نتعلم «فقه الحياة»، وكيف السبيل للوصول إلى هذا الفقه المنشود، الذي من خلاله يستطيع المسلم أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. هل نتعلم «فقه الحياة» ممن يتمسك بأدلة الشرع فحسب؟ أم نتعلمه ممن يتمسك بأدلة الشرع مع النظر كذلك إلى الواقع؟. هذه الأسئلة وما يتفرع عنها من قضايا، وما يتعلق بها من مسائل وإشكالات، هي موضوع «المائدة الفقهية» الدسمة التي يقدمها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوميا على قناة «أنا» الفضائية (التردد 12226 أفقي نايل سات) طوال شهر رمضان، وذلك من خلال برنامج «فقه الحياة»، والتي ستعمل «المساء »على نشرها بشراكة مع قناة «أنا» - فضيلة الشيخ من المعروف عنكم أنكم تتبنون عادة أو مطلقًا منهج التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة، وجعلتم ذلك ضابطًا من ضوابط الوصول إلى الفقه المنشود، فما معنى التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة؟ > هذا أخذته من المنهج النبوي، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى ذلك حينما قال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»، والتيسير في الفتوى والأحكام للناس، يعني أن نفتيهم بالرخص إذا احتاجوا إلى الرخص، ف«إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وكما يكره أن تؤتى محارمه»، ولابد أن يكون هناك نص صحيح صريح حتى نثبت المحرم وإلا فالأصل في الأشياء الإباحة، ولا نشرع في الدين ما لم يأذن به الله حتى لا نكثر على الناس الواجبات. ومن ينظر إلى الإسلام يجد أنه حريص على تقليل التكاليف، وفي هذا نزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) والإمام محمد رشيد رضا جعل هذه الآية أساسًا لكتابه «يسر الإسلام»، فالإسلام يضيق في الأسئلة؛ لأنه كلما أكثرت في السؤال شددت على نفسك، كما فعل بنو إسرائيل، حيث كان من الممكن لما قيل لهم اذبحوا بقرة، أن يذهبوا إلى أي بقرة ويذبحوها، ولكنهم ظلوا يسألون ويسألون، وشددوا فشدد الله عليهم. التيسير لا التلفيق - عادة ما تستشهدون ويستشهد كذلك كل دعاة التيسير بقول النبي صلى الله عليه وسلم أو بوصف عائشة للنبي عليه الصلاة والسلام أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، هل هذا الحديث يتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه». > أولاً نحن لا نريد بالتيسير اختيار الأسهل في كل شيء، وبعض الناس يقول لك نبحث في كتب الفقه وأسهل رأي نأخذه. أنا لا أريد هذا؛ إنما نأخذ الأسهل إذا كان معه دليل، فهناك ناس يقولون هناك رأيان: أحدهما أحوط والآخر أيسر، الميسر يأخذ بالأيسر والمشدد يأخذ بالأحوط، وفي المقابل بعض الناس يقول لك ليس هناك أحوط وإنما هو الدليل، وهذا غير صحيح فهناك اتجاهات، وقد قال أبو جعفر المنصور للإمام مالك أَلَّف كتابًا تجنب فيه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، معنى ذلك أن هناك اتجاها إلى التشديد وآخر إلى التيسير، وهذه طبيعة البشر. نحن أولى بأن نيسر ولا نعسر، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أقرب الناس إلى التيسير، وأكثر الناس تيسيرًا على أصحابه، فأنا إذا وجدت أحوط وأيسر، أفتي عموم الناس بالأيسر، من الممكن أن أفتي بعض الناس بالأحوط، كشباب نريد أن نربيهم على العزائم، وإنما عموم الناس نختار لهم الأيسر، خصوصًا من يستفتون الآن في الفضائيات من مختلف أنحاء العالم، وهناك المسلمون الجدد، والتائبون الجدد، وضعاف العزائم، كل هؤلاء لو شددت عليهم يتركون الأمر، ولذا فمن الأولى أن تختار الأيسر، والذي يدل على هذا هو الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما» وأن النبي عليه الصلاة والسلام غضب على من يشدد من الصحابة، وقال: «أفتان أنت يا معاذ أفتان أنت يا معاذ»؛ لأنه يطيل بالناس الصلاة، ولما شكى إليه أن أبي بن كعب يطيل بالناس الصلاة، حتى بعضهم يخرج منها، قال إن منكم منفرين، وغضب غضبًا لم يغضب مثله، وقال: من أم بالناس فليخفف أو فليتجوز فإن وراءكم الكبير والضعيف وذا الحاجة. - هل ترون أن اختيار الأيسر والأسهل من كل مذهبٍ من المذاهب يدخل في باب التيسير، أم أنه كما يسميه العلماء من باب التلفيق. > التلفيق هو أخذ الأمر بغير دليله، أي أنه من غير دليل يبحث عن الأسهل ويجمعه على بعض، وهذا اتباع للهوى، وإنما أنا أتبع هذا لأنه قام الدليل عندي على أنه صحيح، فإذا قام الدليل على هذا، فلا يدخل في التلفيق في شيء، وعملنا في الفقه كله بهذه الطريقة، فلا نأخذ المذاهب أو الآراء تقليدًا، إنما نأخذها بدليل يرجحها. أمة لا تجتمع على ضلالة - أنتم تقولون إنه لا بد للوصول إلى هذا الفقه المنشود، أن نؤمن بعصمة الأمة، ما المقصود بالأمة؟ وما المقصود بعصمتها؟ > إذا ذكرت الأمة في المجال الإسلامي، فالمقصود بها أمة الإسلام، أمة الإجابة، أمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، أمة القبلة، هذه الأمة بكل فرقها ينبغي أن يحترم ما أجمعت عليه، وهذا يدخل في باب الإجماع المتيقن، والأمة معصومة في مجموعها، بينما لا يوجد إمام معصوم عندنا أهل السنة، إخواننا الشيعة عندهم الأئمة المعصومون، لكننا ليس عندنا أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم، لا الخلفاء الأربعة ولا كبار الصحابة ولا أمهات المؤمنين، ولا أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي قال الله فيه (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) إنما المعصوم هو مجموع الأمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة» وقد جاء الحديث من طرق يقوي بعضها بعضًا، وهذا أمر مجمع عليه. الأمة في مجموعة معصومة، ولا يمكن أن تخرج الأمة كلها على الإسلام، ولا بد أن يظل في هذه الأمة من يقول الحق، كما قال الله تعالى: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) وكما قال سيدنا علي: «لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة»، وما جاء في الحديث «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». وكما جاء في أحاديث مستفيضة، عن عدد من الصحابة عن الطائفة التي يسميها العلماء الطائفة المنصورة، وهي التي تقوم على الحق، «لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون أو هم على ذلك»، فلا يمكن أن تجتمع الأمة على ضلالة. فهؤلاء الذين يريدون أن يخرجوا على الأمة مرفوضون، وهذا ضابط مهم، وخصوصًا الأمة في قرونها الأولى؛ لأن خير قرون هذه الأمة كما جاء في أحاديث مستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم القرن الأول «قرن الرسول» ثم قرن الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، هذه القرون الثلاثة هي خير قرون هذه الأمة، فإذا أجمعت على أمر لا يجوز لأحد أن يدعي أن الأمة هذه لا تعرف شيئًا، ويقوم بتفسير القرآن تفسيرًا جديدًا، لا يعرفه أبو بكر، ولا عمر، ولا ابن مسعود، ولا ابن عباس، ولا مجاهد، ولا قتادة، ولا الطبري، ولا القرطبي، ولا ابن كثير، هذا جنون، كيف يريد أن يصنع أمة أخرى بدين آخر. - خصوصًا وأن هذه القرون الثلاثة التي ذكرتم فضيلة الشيخ هي التي حملت إلينا هذا الدين، ولولاها ما وصل الدين إلينا. > نعم، هم الذين حملوا إلينا القرآن، من أين أخذنا القرآن من هؤلاء، بالحرف، بالغنة، بالمادة، وأخذنا عنهم السنن هم الذين رووا لنا السنن القولية والسنن العملية، فنحن نصلي كما يصلون، وأخذنا عنهم الحج، «خذوا عني مناسككم» وأخذنا عنهم الصيام، والسنن العملية المتواترة، والسنن القولية، والسنن التقريرية كلها أخذناها عن هؤلاء. - هناك بعض الفقهاء في منهجهم لا يزاوجون بين الواقع وبين الواجب، ولكنكم تؤكدون على ذلك، وتقولون إن الفقه المنشود لا بد أن تتم فيه المزاوجة بين الواجب وبين الواقع، أي واجب تقصدون وأي واقع تريدون؟ > هناك أناس يعيشون في الكتب وحدها وبين الأوراق؛ يعيش في صومعته، ولا يعرف ماذا يحدث في الحياة، فهؤلاء لا يمكن أن يكون حكمهم صحيحًا، لكي يكون الحكم صحيحًا لا بد أن تعرف الحياة وما يجري فيها؛ ولذلك سمينا البرنامج «فقه الحياة»، كيف تفقه الحياة وأنت تعيش في برج عاجي أعلى من الناس، أو في صومعة منعزلة عن الخلق. الكتب وحدها لا تكفي، لا بد أن تعرف الواقع كما هو بلا تهوين ولا تهويل، لأن فيه أناسًا يحاولون أن يهولوا من الواقع ويضخموا فيه، وأناسًا آخرين يهونون الشيء الخطير، ونحن منهج وسطي في كل شيء، ننظر إلى الأمور كما هي، ونحكم عليها بما تستحقه. فذلك البعد عن الواقع يجعل حكم الإنسان غير صائب، وهو ما نبه إليه العلماء، فالإمام أحمد قال: «المفتي لا بد له من معرفة الناس»، ومعرفة الناس تعني معرفة الواقع بما فيه، وأنا اشترطت في المجتهد الذي يجتهد أن يعرف الناس ويعرف مشاكل الحياة والثقافة. ومن لا يعرف أي شيء عن الثقافة الإنسانية، ولا يعرف علم النفس ولا علم الاجتماع، ولا يعرف ما تجري به الحياة، ولا يقرأ الجرائد، كيف يفتي الناس، لابد للمفتي أن يعرف آلام وآمال وشرور الناس، حتى يستطيع أن يتوقاها، والواجب ما أوجبه الدين من تكاليف، والتكاليف بأوامرها ونواهيها والواقع ما يعيشه الناس، فلا يعيش فيما هو واجب وينسى ما هو واقع، ولا يعيش في الواقع ولا يفهم الواجب.