بدون مقدمات، نحن بصدد أهم تحد أوربي للولايات المتحدة بشأن توليها الزعامة على قضية الشرق الأوسط... وفي القلب منها قضية فلسطين، وتحديداً قضية الدولة الفلسطينية. إنني أعني تحديداً الصيغة الأصلية للتقرير/القرار الأوربي بشأن القدس. ففي اعتقادي أنه يمثل الرأي السياسي والقرار الحقيقي لدول أوربا. إنه التحدي الأوربي الحقيقي في مواجهة التحدي الأمريكي. وبهذا المعنى، فإنه لن يموت نتيجة للضغط الأوربي والتغيير الذي أدى إليه هذا الضغط، فضلاً عن كونه ضغطا لم يسفر عن إلغاء الرأي الأوربي وإنما أسفر عن إعادة صياغته. والفرق ليس جوهرياً بين وصف القدسالشرقية بكونها عاصمة الدولة الفلسطينية المنتظرة ووصف القدس كلها بكونها عاصمة للدولتين عندما تقوم الدولة الفلسطينية. لم يسبق لأوربا أن دخلت ميدان القضية الشرق أوسطية بهذه الصورة المباشرة. وهي إما أن تأخذ الولاياتالمتحدة إلى الطريق الأوربي الجديد أو أن تزيح الولاياتالمتحدة عن عجلة القيادة التي بقيت فيها منذ حرب السويس عام 1956 ولم تقبل دوراً أوربيا منذ ذلك الوقت. ومن المهم أن نلاحظ قبل الدخول إلى رؤية تحليلية لهذا التقرير وما يمثله أن الاتحاد الأوربي يملك 27 صوتاً في الأممالمتحدة، واثنتان من دوله -هما فرنسا والمملكة المتحدة (بريطانيا) تملكان حق الفيتو في مجلس الأمن، ويتعين علينا أن نستبعد احتمال أن تستخدم أيهما حق الفيتو ضد التقرير الأوربي إذا وجد طريقه إلى مجلس الأمن بصورة أو بأخرى. إنما يفرضُ نفسَه سؤالٌ مهمٌّ هنا، وهو إذا ما كان يمكن للولايات المتحدة أن تستخدم حق الفيتو ضد مشروع قرار أوربي مبني على هذا التقرير إذا سارت التطورات في هذا الاتجاه. إن التقرير الأوربي الذي تولت إصدارَه السويدُ بصفتها رئيسة الاتحاد الأوربي في الوقت الحاضر يعيد الأوضاع والمواقف منها إلى أصولها التاريخية... على الأقل إلى لحظة ما قبل استخدام القوة الإسرائيلية لتحقيق الاحتلال. فالتقرير يؤكد، على وجه التحديد، الحقائق الثابتة التالية كما حددتها الصياغة الأوربية الأصلية للتقرير: أولا: إن سياسة الاتحاد الأوربي تجاه القدسالشرقية تقوم على أساس قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر عام 1967، وخاصة عدم الاعتراف بأي ضم للأراضي بالقوة أو بالتهديد باستخدامها. وبالتالي، فإن الاتحاد الأوربي لم يعترف أبدا بالاحتلال الإسرائيلي للقدس المحتلة ولا بالقانون الذي أصدرته إسرائيل عام 1980 بضم القدسالشرقية إليها... في المقابل، أصدر مجلس الأمن عام 1980 القرار رقم 478، برفض الاعتراف بالقانون الإسرائيلي، وبأي تحرك إسرائيلي يهدف إلى تغيير الواقع في الأراضي المحتلة. ثانياً: تتبنى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسة نقل السكان اليهود ليعيشوا في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة في انتهاك واضح لمعاهدة جنيف الرابعة والقانون الدولي الإنساني. ونتيجة للسياسة الإسرائيلية، تمت فعلاً مصادرة أكثر من 30 في المائة من أراضي القدسالشرقية لصالح اليهود... واليوم، يعيش حوالي 190 ألفا من المستوطنين في القدسالشرقية. ثالثاً: يعتمد أغلب النشاط الاستيطاني في القدسالشرقية على تمويل المنظمات اليهودية المؤيدة للاستيطان، الأمر الذي يتم في إطار رؤية استراتيجية للحكومة التي تقدم التسهيلات الكبيرة لهذا النشاط... بهدف زرع المزيد من البؤر الاستيطانية في البلدة القديمة من القدسالشرقية، وهو الجزء الذي يضم المقدسات الإسلامية والمسيحية. رابعاً: توسعت إسرائيل في إصدار قرارات إبعاد الفلسطينيين عن القدس وهدم منازلهم فيها، بدعوى عدم وجود تراخيص للبناء، على الرغم من أن القانون الدولي يلزم إسرائيل كقوة احتلال بتوفير جميع الخدمات الأساسية لسكان الأراضي المحتلة. وفي حين يمثل الفلسطينيون حوالي 35 في المائة من سكان القدس فإنهم لا يحصلون إلا على أقل من نسبة 10 في المائة من ميزانية الخدمات البلدية. خامساً: توسعت إسرائيل في قرارات هدم منازل الفلسطينيين في القدسالمحتلة وإبعادهم بمبررات واهية. ومنذ عام 2000، أصدرت السلطات الإسرائيلية أكثر من 600 قرار هدم منازل في القدس. كما شهد عام 2009 تشريد أكثر من 200 فلسطيني، أغلبهم من الأطفال، ويمكن أن يصل العدد إلى 3600 فلسطيني إذا نفذت قرارات الهدم الموجودة حالياً. سادساً: أدى تشييد الجدار العازل في الضفة الغربية إلى مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي التي يملكها فلسطينيون وعزل آلاف الفلسطينيين عن أماكن عملهم ومزارعهم. سابعاً: يؤدي فصل القدسالمحتلة عن باقي مناطق الضفة الغربية إلى تداعيات خطيرة على الاقتصاد الفلسطيني ويضعف الروابط الاجتماعية. وعلى الرغم من عدم اكتمال بناء الجدار العازل، فإنه تسبب في صعوبات كثيرة لمئات الآلاف من الفلسطينيين. وتكفي قراءة واحدة لمعطيات التقرير الأوربي للتوصل إلى استنتاج مفاده أنه تقرير غير مسبوق من جهة رسمية غربية، فضلاً عن كون هذه الجهة الرسمية تتمثل في الاتحاد الأوربي الذي يحتل المكانة الثانية في العالم بعد الولاياتالمتحدة ككتلة دولية مؤثرة. وتدل صياغته على قراءة دقيقة للغاية للواقع القائم في الأرض الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي.. قراءة لم تتأثر كما هي العادة ببيانات إسرائيل ولا بقدرة الأجهزة الإسرائيلية والصهيونية على صعيد عالمي على شن الهجمات الدعائية المضادة... التي تستند في أساسها إلى اتهام كل من ينتقد إسرائيل ويخالفها بالعداء للسامية. التقرير ينبئ بأن أوربا تسير في طريق الشفاء من عقدة الذنب التي تكونت نتيجة عوامل تاريخية قديمة لم يعد لها وجود أو أثر في الواقع. إلى هذا يلفت النظرَ بشدة التحذيرُ الذي وجهته السويد بصفتها الرئيسة الحالية للاتحاد الأوربي إلى إسرائيل من أن تحاول تطبيق طريقة فرّقْ تسدْ مع أوربا في التعامل مع هذا التقرير. إنما يميز التقريرَ، بعد هذا التوضيح لمخالفات إسرائيل، ما تضمنه من توصيات اتفقت عليها الدول المكونة للاتحاد الأوربي: - توصية بوجود دور أكثر فاعلية للاتحاد الأوربي من أجل التصدي للممارسات الإسرائيلية في القدسالشرقية، وضرورة العمل على تطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وتوصيل رسالة أوربية واضحة إلى السلطات الإسرائيلية بشأن الموقف من القدسالمحتلة. - توصية بضرورة الاعتراف بالقدسالشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المنتظرة، وتأكيد عدم شرعية السيادة الإسرائيلية عليها، وتشجيع وجود ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدسالشرقية، وإقامة الاحتفالات بالأعياد الوطنية للدول الأوربية في القدسالشرقية وفي مؤسسات فلسطينية بها، إذا ما أتيح ذلك باعتبارها عاصمة للفلسطينيين. - توصية بإصدار تشريع أوربي يحظر عقد صفقات اقتصادية أو مالية مع أي جهات تدعم الاستيطان في القدسالشرقية، وإصدار دليل غير ملزم لشركات السياحة الأوربية التي ترسل أفواجا إلى القدسالشرقية حتى لا تدعم المستوطنات في المدينة. نستطيع أن نستنتج من دون تردد أن هذه التوصيات تعني أن أوربا عازمة على الخروج من الاكتفاء بالوقوف على الخطوط الجانبية ودور المتفرج تاركة زمام القيادة للولايات المتحدة. الأمر الذي يعني أن التحدي الأوربي للتحدي الأمريكي قد بدأ وأن الولاياتالمتحدة في المرحلة الراهنة التي تتميز بالتردد والإحجام عن التغيير ستجد نفسها مطالبة على الأقل بأن تطابق مواقفها الرسمية بمواقفها الفعلية. إنها فرصة لإدارة أوباما لتبرهن على استعدادها للتغيير. إن سكوت الولاياتالمتحدة لعدة أيام متوالية منذ صدور تقرير الاتحاد الأوربي في صياغته الجديدة، حتى كتابة هذه السطور، هو دليل على أن واشنطن تؤْثر أن تدرس قبل أن ترد. ومعنى هذا أنها لا تفكر في الهجوم التلقائي. كذلك، فإن رد الفعل الإسرائيلي اتسم حتى الآن بالحذر وآثر التعامل مع تقرير صادر عن الاتحاد الأوربي وكأنه «تقرير سويدي»، وهي حيلة لن يطول استخدامها، خاصة وأنها تقع تحت طائلة التحذير من أسلوب «فرّقْ تسدْ». وأغلب الظن أن إسرائيل ستحاول أن تنتهج هذه الطريقة، لا لتفرق بين الدول الأوربية في ما بينها وإنما لتفرق بين الدول الأوربية والولاياتالمتحدة. إسرائيل لن تنتظر طويلاً لتصل إلى استنتاج مفاده أن الهدوء الأمريكي إزاء التقرير الأوربي هو تشجيع لأوربا في الوضع الجديد الذي وضعت نفسها فيه. فهو، في تقدير إسرائيل، ليس تحدياً أوربيا للتحدي الأمريكي وإنما هو التحدي الأوربي لاستفزاز أمريكا لتحدي إسرائيل (...). بإمكاننا الآن وعلى الرغم من الضغط الذي مورس على الاتحاد الأوربي لإعادة صياغة تقريره أن نقول إن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية ستكون بعد تقرير الاتحاد الأوربي أقوى مما كانت قبله... مهما كانت ردود الأفعال الإسرائيلية والأمريكية. أما التحفظات التي نطق بها بعض المعتدلين وكان أظهرهم وزير الخارجية المصري أبو الغيط فلا تخرج عن كونها ضرباً من المزايدة التي لا تكلف أصحابها شيئاً وإن كانوا يتصورون أنها يمكن أن تعوضهم عن بعض الاحترام المفقود.