يختلف محمد امجيد عن بقية الشخصيات التي طبعت تاريخ المغرب بتنوع اهتماماته، فالرجل، على الرغم من تقدمه في السن، يعتبر ذاكرة حية يتعايش داخلها السياسي والرياضي والاجتماعي. بدأ امجيد حياته مناضلا إلى جانب المهدي بنبركة، وانتهى به المطاف فاعلا جمعويا، وخاض معارك ضارية ضد إدريس البصري، تارة، وضد الأحزاب السياسية، تارة أخرى، رغم أنه مارس السلطة ونال، طيلة ولاية كاملة، صفة نائب محترم.. تلك التي يمقتها. «المساء» تجوب تضاريس مسار شخص يملك أكثر من قبعة، ويرفض المغادرة الطوعية لكل أوجه النشاط. - قضيت فترات متقطعة في معتقلات المغرب، ما هي المحطة العقابية التي كانت الأبرز في نظرك؟ < أول اعتقال لي تمّ في أعقاب المظاهرة التي كنا نقودها كطلبة بمناسبة عيد العرش، حيث كنت من بين القياديين الذين ينوهون بالسلطان ويدعون إلى السيادة المغربية. ومن مدينة آسفي تمت إحالتي على مجموعة من مخافر الشرطة الفرنسية، حيث قضيت فترات في «كوميساريات» الشماعية واليوسفية، قبل ترحيلي، من بين آخرين، إلى سجن الصويرة، حيث كنت محظوظا لأنني التقيت هناك بشخصيتين رياضيتين، وهما الشقيقان أورلاندو، البطلان في سباق الدراجات واللذان شاركا في طواف المغرب، وكانا يعملان في السجن ضمن حراس المعتقل، لقد أسديا إلي خدمات كثيرة، وكنت أشتغل كبقية المعتقلين في ميناء الصويرة، طيلة اليوم، في شحن وإفراغ البواخر التجارية من البضائع، وطبعا دون مقابل لأن ذلك كان في إطار الأعمال الشاقة التي تسند إلى المسجونين. بعد ذلك، التحقت بالسجن الفلاحي عين علي مومن بضواحي سطات، ومنه نقلت إلى لعلو بالرباط، ومنه إلى مكناس كنقطة عبور نحو أحد أكبر المعتقلات ويدعى أغبالو نكردوس في إقليمالراشيدية. - من هم الأشخاص الذين كانوا رفاقك داخل السجن في تلك الفترة؟ < في معتقل عين علي مومن بسطات كنا في جناح مشترك مع معتقلي الحق العام، وكان أغلبهم محكوما عليه بمدة طويلة تفوق 15 أو حتى 20 سنة. في تلك الحقبة التاريخية، كانت المحاكم العسكرية تصدر أحكاما قاسية. هذه الفئة من المساجين كانت لها امتيازات، وقد استفدنا منها نحن أيضا، ومنها حرية التجول داخل المعتقل. لقد كان السجن الفلاحي لعين علي مومن وسجن العادر بضواحي الجديدة يمدان بقية السجون بالتموين الغذائي (من حبوب وقطان وخضر ولحوم)، وكان المعتقلون هم الذين يقودون الشاحنات، خاصة أصحاب العقوبات طويلة المدى. ونحن كنا نوظف هؤلاء السائقين في التواصل بيننا، وكان لي اتصال بعبد الرحمن بادو الذي كان من بين المعتقلين والذي عمل طويلا في وزارة الخارجية، وهو والد ياسمينة بادو، وزيرة الصحة حاليا. - ماذا تبقى في ذاكرة امجيد عن تجربة المعتقل الرهيب أغبالو نكردوس؟ < بعد أن قضيت ليلة إلى جانب مجموعة من البحارة في مخفر للشرطة بمكناس، لم نر فيها النوم، تم ترحيلنا صوب منطقة صحراوية في ضواحي تنجداد بإقليمالراشيدية. وخلال الرحلة الطويلة والشاقة، كانت سيارة «جيب» تتوقف بين الفينة والأخرى، حيث كان حراسنا يعمدون إلى ممارسة هواية صيد الجوارح والأرانب، ونحن مقيدون في رحلة عذاب لا تنسى أبدا. وبعد ساعات طوال، توقفنا أمام بناية تبين من شكلها أنها سجن أغبالو نكردوس الرهيب، وهو معتقل مر به عدد من الوطنيين، وبإمكان أي زائر للسجن اليوم أن يجد أسماء الشخصيات التي اعتقلت بهذا المكان مكتوبة على رخام يؤرخ للحدث، مثل بنبركة وبوعبيد واليوسفي والمحمدي وبنشمسي ولمرابط وغيرها من الوجوه المعروفة في المجال السياسي والتي قاومت المستعمر الفرنسي بكل الوسائل المتاحة. - هل كنتم تتواصلون في ما بينكم داخل المعتقل؟ < لقد قمنا بحركة احتجاجية داخل المعتقل، من أجل تحسين أوضاعنا، وهي الحركة التي قادها المعتقلون البحارة الذين تحولوا إلى زعماء أيضا على غرار الجيلالي والعيساوي وبناني. وعلى إثر هذه الانتفاضة، تحسنت الأوضاع وغيرت الإدارة من تعاملها مع المعتقلين الذين أصبحوا يتناولون وجبات غذائية يتوفر فيها الحد الأدنى من الكرامة. أذكر أن المراقب في تنجداد، وكان يدعى كونور، استدعاني مرة إلى مكتبه بعد أن تعرف على سيرتي كرياضي، وأطلعني على غضب الحركة الوطنية من ظروف الاعتقال في أغبالو نكردوس، بل وأكد لي أن المفاوضات بين المغاربة والفرنسيين في إيكس ليبان قد توقفت بسبب مطالبة المغاربة بمسح المعتقل من الخريطة، وقال لي بالحرف: «هيئوا أنفسكم للترحيل»، وطلب مني عدم الكشف عن مصدر الخبر. وعلى الفور، وجدت نفسي أزف البشرى لرفاقي في الزنزانة وأدعوهم إلى الاستعداد للترحيل أو الإفراج، وهو ما حصل، فقد حلت ذات صباح حافلة وطلب مني الحراس الاستعداد للرحيل إلى مكناس. - هل يتعلق الأمر بترحيل إلى معتقل آخر أم بإفراج؟ < بإفراج، حيث قام الحراس باقتيادنا إلى مكناس ومنها إلى الدارالبيضاء، وأذكر أن الحافلة لم تكن تتوقف حين كنا نصل إلى إحدى المدن في المحطة المخصصة للمسافرين، بل كان السائق يلج إلى «كراج» خصص لهذه الغاية كي لا يتعرف العامة على هوياتنا، كما كنا نتجنب التوقف أمام المقاهي، إلى أن وصلنا إلى الدارالبيضاء. أذكر أنه في طريقنا من أغبالو نكردوس نحو مكناس توقفت الحافلة في ميدلت، على ما أعتقد، والتقيت بدركي والده ترجمان جزائري، تعرف علي لأنه كان يمارس كرة السلة ضمن فريق كنت أشرف عليه في آسفي، وقال لي إن صديقي المحامي الفرنسي الشهير جان شارل لوغران قد اعتقل من طرف الفرنسيين عقب حادث انفجار قنبلة في أحد مقاهي مرس السلطان، وقضى ليلة في مخفر الشرطة قبل ترحيله صوب فرنسا. - هل كان أغبالو نكردوس آخر محطة في مسلسل الاعتقال؟ < خلال الطريق الرابط بين أغبالو نكردوس والدارالبيضاء، كان الوطنيون ينسحبون تباعا من الحافلة كلما وصلوا إلى مدنهم، وواصلتُ، بعد توقف في الدارالبيضاء، الرحلةَ صوب مدينة آسفي رفقة الفقيه السرغيني، وبقيت في عاصمة عبدة إلى أن نال المغرب استقلاله. - لكنك عينت مديرا للسجن مباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال، كيف جاء هذا التعيين؟ < تلك حكاية أخرى تعود إلى بداية الاستقلال، فقد اتصل بي ذات مساء عبد الرحمن بادو، الذي تربطني به علاقة صداقة متينة، وكان يشغل ساعتها منصب مدير ديوان وزير العدل عبد الكريم بنجلون.. كان رجلا وطنيا ومخلصا، وهو والد ناصر الذي كان سفير المغرب في جنيف، وناصر المدير العام للبنك المغربي للتجارة الخارجية. قال لي بادو: لا بد من الالتحاق فورا بالعاصمة. ركبت حافلة الشقوري والتحقت بمقر وزارة العدل. استهل عبد الرحمن حواره معي بسؤالي عما إذا كانت لي معطيات حول الفرار الجماعي الذي نفذه معتقلو سجن «غبيلة» بالدارالبيضاء، قال لي إن 300 معتقلا قد فروا دفعة واحدة من السجن، وحملوا معهم دخيرة من السلاح، من بينهم مقاومون وأشباه مقاومين. وطلب مني الاتصال فورا بالمهدي بنبركة، فتوجهت إلى منزله وطلب مني الالتحاق حالا بسجن «غبيلة»، وأوصاني بأن أخبر حارس البوابة، حين يسألني عن صفتي، بأنني المدير الجديد للمعتقل. - هكذا، دون قرار إداري مكتوب كما تقتضي ذلك الأعراف الإدارية؟ < كان التعيين شفويا، وتوجهت إلى الدارالبيضاء حيث التقيت بمدير المؤسسة، وكان فرنسي الجنسية. قدمت إليه نفسي ومهمتي الجديدة. وعلى الفور، استجاب وترك لي كرسي المسؤولية. قمت بجولة في السجن وباشرت على الفور مهامي. من حسن حظي أن مجموعة كبيرة من المعتقلين تعرفوا علي. قمت بزيارة لسجن العادر ولعين علي مومن والتقيت بالسجناء القدامى، الذين كانت تنتظرهم عقوبات طويلة المدى، ودعوتهم إلى مساعدتي على الكشف عن مهربي الأسلحة، مقابل إطلاق سراحهم. وفعلا، نجحت العملية وتم اعتقال الفارين من ضواحي سطات، ومنهم من كان يدعي المقاومة. اغتنمت الفرصة وأفرجنا على العديد من السجناء القدامى بعد توظيفهم، قضيت ثلاثة أشهر كمدير قبل أن أغادر المؤسسة دون أن أتقاضى أي راتب، كما ساهمت في مساعدة مجموعة من المقاومين على استعادة حريتهم.