قد يبدو إيجابيا لصالح التحول الديمقراطي أن يخسر الانتخابات فريق إسلامي هنا أو هناك، حتى تنتزع من مخالب أنظمة القمع فزاعة لا تني تحركها كلما تعرضت لضغط من الداخل أو الخارج من أجل الانفتاح، فزاعة الاكتساح الإسلامي للساحة، لو أن النظام القائم حارس العلمانية والحداثة والمصالح الغربية فتح أمامهم الباب!! خسارة فريق إسلامي هنا أو هناك أيضا تعيدنا إلى السياسة، باعتبار أن هاهنا كانت إعاقة الأمة المتوارثة والمستمرة، إذ عجزت عن إدارة اختلافاتها السياسية بالشورى بديلا عن القوة. إن رفع الإسلاميين شعار «الإسلام هو الحل» لا يعني أنهم والأمة قد تجاوزوا هذه الإعاقة ولا أنهم، بحال، يملكون مفاتيح الجنة والنار، فهم مثل غيرهم يخطئون ويصيبون يربحون ويخسرون ويختلفون ونادرا ما يتحدون، وكثيرا ما يبلغون اختلافا حد تكفير بعضهم بعضا بل حد سفك دماء بعضهم بعضا، وهو جزء من المشهد العام للأمة آخذ في الاتساع، كيف يفسر وكيف يعالج؟ 1 - حرص الإسلام على أن يرسخ في معتنقيه أنهم إخوة، والأخوة أوثق الروابط الأسرية، بما يعنيه ذلك من شعور بالتضامن والتآزر والتوحد والمحبة والمساواة والاشتراك في الانتماء إلى جماعة واحدة. ولقد كان توفيق صاحب الدعوة عليه السلام باهرا في غرس هذه الثقافة والشعور والروابط في أمة العرب معدن الإسلام الأول، القوم الذين شرّح العلامة ابن خلدون مكونات شخصيتهم الجمعية ووقف على أخطر ثغراتها: الانفراد الذي وصفه بخلق التوحش «فهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، فلا ينقادون إلا لنبي أو لوليّ»، ويعني بذلك ضعف إرثهم السياسي والتمدّني فهم أهل بادية وبخاصة عرب الحجاز يومئذ، فلم يكن يشدهم من رابط غير رباط واهن هو القبيلة، وكثيرا ما ثقل على أحرارهم فتصعلكوا. ولذلك كان مفهوما أن يبدئ صاحب الدعوة ويعيد وهو يروض ويمدّن توحشهم توكيدا متكررا للجماعة والطاعة وربطهما بالإيمان وربط التمرد عليهما بالجاهلية. ولقد بلغ أمر حرصه عليه السلام على إبراز الجانب الحضاري التمديني لدعوته أنها لم تكن مجرد دعوة دينية بل هي في الآن دعوة سياسية حضارية شاملة أن سمىّ حاضرة ملكه «المدينة» ربطا بالتمدن، فحظر على صحبه القادمين إليها من البادية العودة إلى التبدي فقال: «من بدا جفا» مسند أحمد، بل اعتبر التبدي بعد تحضر منكرا. 2 - غير أن الإرث العربي من التشقق القبلي ومن الضعف والهزال في التجربة السياسية هو ما سرّع بانقراض الخلافة الراشدة حيث كان الحكم للسياسة لا للقوة، وذلك بأثر تضاؤل شحنة الإيمان التي كانت سبيل العرب إلى السياسة، تضاءلت بتضاؤل الجيل القرآني الفريد (حسب تعبير سيد قطب) بالقياس إلى الأعداد الضخمة من مسلمة الفتح وما بعده من العرب وغيرهم، الأمر الذي أحدث اختلالا هائلا في التوازن داخل المجتمع الإسلامي المتورم بكثرة الداخلين الجدد، منجذبين إلى عدله، فكان من نتيجة ذلك أن عاد العنصر القبلي الذي توارى وكمن خلال مد الإسلام الأول، عاد ليفرض منطقه القبلي ضمن معادلة هو أقواها إلى جانب التراث الإداري والسياسي والثقافي للإمبراطوريتين الرومية والساسانية الهالكتين، دون أن يفقد الإسلام أسهمه جملة في هذه الشراكة. وكلما تقدم الزمن قوي الأثر الإمبراطوري عبر الإدارة التي ورثها المسلمون بثقافتها السياسية، بل وبعناصرها التي تدعّم أثرها في القرن الثاني، فما جاء القرن الثالث حتى مالت الكفة بالكامل لصالح غير العرب الذين ظلوا مجرد رموز للخلافة مسلوبين من السلطة، وحتى الفرع العربي الذي قاد أول انشقاق في الخلافة مؤسسا لحكم عربي في الأندلس لم يمض بعيدا حتى دب إليه داء العرب، داء التشقق والمسارعة إلى السيف بديلا عن السياسة في فض اختلافاتهم بسبب ضعف إرثهم من السياسة كما لاحظ ذلك بحق الأستاذ زيد الوزير، فذهب ملكهم ضحية تلك الإعاقة، حتى إنهم لم يكادوا يعرفون طعما للسياسة بعد الخلافة الراشدة، إذ تمحّض الملك للقوة. 3 - بموازاة ذلك وبسببه، تمكنت شعوب أخرى من إزاحتهم من الملك منذ العهد العباسي الثاني فالمملوكي فالعثماني والصفوي، حتى إذا عادوا إلى الملك منذ حوالي قرن لم تسعفهم تجربتهم الفقيرة من السياسة متعاونة مع الموازين الدولية المائلة لغير صالحهم، في إعادة بناء عالم السياسة، فكان إرث القبيلة والدولة السلطانية هو الأقرب إليهم من تجشم أعباء السياسة بما هي البديل عن القوة تعبيرا عن ملكة العقل في الإقناع والتفاوض والبحث عن تسويات من طريق اعتماد آليات مدنية. 4 - وربما هذا ما يفسر، ولو جزئيا، النجاح النسبي للأمم المنافسة لأمة العرب في الإدارة السياسية، مثل الفرس والترك، وذلك بالقياس إلى الفشل العربي الذريع في السياسة على كل المستويات، سواء أكان في مستوى إقامة وحدتهم كما فعل غيرهم أم في مستوى إدارة أقطارهم بالسياسة لا بالقوة أم في المستوى التنموي وحتى في مستوى الدفاع عن وجودهم في مواجهة الأخطار المحدقة بهم مثل بوادر عودة الاستعمار ناهيك عن السرطان الصهيوني خطرا مراهنا على دفعهم إلى مزيد من التفكك والتشظي سبيلا إلى المسك بخناقهم، فهاهم يستجدون التعايش معه، ويعرضون عليه الاعتراف الجماعي بما اغتصب، بدل مواجهته بل هم قد اتخذوا سياسة لهم، حراسته والمسك بتلابيب من يفكر في مقاومته. 5 - وقد يبلغ هذا الإفلاس في السياسة أقصاه، إذ يفضي الصراع على السلطة إلى انهيار الدولة جملة كما حدث في الصومال، أو تبلغ من البطش بشعبها والعتو إلى اليأس من إمكان التصدي لعنفها دون استعانة بقوى أجنبية، بما يجعل الخيارات المطروحة أمام العرب من أجل توليد السياسة وإحلالها محل القوة خيارات محدودة كثيرا ما يكون أحلاها مرا، وذلك بعد أن سدت الدولة القائمة كل باب للسياسة باعتمادها المطلق في اكتساب وتثبيت شرعيتها على القوة، قوة الجيش أو البوليس والخارج من ورائها ظهير، حتى ما بقي للانتخابات –إذا وجدت- من وظيفة غير تصدير البلد إلى الغرب، بما يجعل الاشتراك فيها نوعا من التواطؤ والغش وتثبيت الباطل، مما لا يفضي إلى شيء غير البحث عن سهم في الغنيمة. بعد أن استقر الحكم على القوة والمغنم، ما بدا معه أن الطريق إلى السياسة متجه إلى المزيد من الضيق، منفتح على بدائل تحمل في ذاتها جرثومة فسادها من مثل الاستظهار بقوى الخارج وهذه ليست منظمات خيرية ولا هي جيوش للإيجار، بل هي دول عظمى دماؤها وأموالها أزكى من أن تهدر من أجل توريد السياسة (الديمقراطية) إلى المتعطشين لها العاجزين عن الحصول عليها، وهي بالتجربة لا تتحرك ولا تضحي إلا من أجل مصالحها. وما حدث في العراق وفي أفغانستان من كوارث جرها التدخل الخارجي لا يغري عاقلا، فتسول له نفسه أن هذا طريق لاستيراد السياسة لتحل محل القوة نهجا في حكمنا.