سعيد الجديدي هو أحد أبرز الوجوه الإعلامية في المغرب. وقد عرفه المشاهدون، خاصة، وجها مركزيا في النشرات الإخبارية باللغة الإسبانية في التلفزة المغربية طيلة عقود. وخلف وجهه الإعلامي، يخفي سعيد وجها آخر هو وجه المثقف والروائي. في الحلقات التالية، نجوب معه في مساراته المتعددة عبر أبرز المحطات في المغرب، التي واكبها إعلاميا عن قرب، من المحاولتين الانقلابيتين عامي 1971 و 1972 إلى إذاعة طرفاية مرورا بتجربته في الحقل الإعلامي الإسباني، إلى أهم ذكرياته في المجال الإعلامي الوطني. - في عام 1971 كان انقلاب الصخيرات، الذي حوصر فيه مقر الإذاعة والتلفزة في الرباط من طرف الانقلابيين، ماذا تتذكر عن ذلك؟ < أنا عشت للأسف هذا الحادث بطريقة عميقة جدا، لأنني بت تلك الليلة في مقر الإذاعة، وكان ذلك يوم سبت، فتم احتجازي رفقة الصحافيين الآخرين، أما الدور الإذاعي الذي قمنا به في الانقلاب فكان في اليوم التالي الذي هو الأحد، بعد إعدام المدبرين، حيث ظللنا نترجم البلاغات الرسمية فقط طيلة يومي الأحد والإثنين ولم تكن هناك أي برامج، وأتذكر عدة صحافيين كانوا معي مثل علي حسن وعبد اللطيف القباج والعربي الصقلي والمكي بريطل، وآخرين في القسم العربي والقسم الأمازيغي، وأنا أعتقد أن الإعلام الرسمي في المغرب تحولا تحول جذريا بعد تلك الأحداث، التي كانت أول نقطة تحول، حيث أصبح منفتحا نسبيا، لأنه من قبل كان الإعلام مرتبطا عضويا بوزارة الإعلام. ومن بين البرامج التي أعدت بعد تلك المرحلة مثلا برنامج«نادي التلفزة»الذي كنت أعده إلى جانب المكي بريطل، وهو من أحسن البرامج في التلفزة، ولو أن بعض الأشخاص يريدون طي ذلك البرنامج، لكن يبقى من الصعب عليهم ذلك، لأنك إذا أردت إلغاء ذلك البرنامج من الذاكرة فيجب أن تلغي 80 في المائة من المشهد الفني في المغرب، أن تلغي مثلا بزيز وباز اللذين بدآ من ذلك البرنامج، لكن اليوم من يعرف المكي بريطل الذي كان من أحسن المنشطين في المغرب؟، وهو اليوم يعيش في كندا مع أسرته بعدما أصبح يحمل جنسيتها. فبعد محاولة الانقلاب تلك بدأ نوع من الانفتاح نحو الآخر والشباب خصوصا. - ماذا تتذكر عن حادث محاصرتكم كإعلاميين داخل مقر الإذاعة في ذلك الحادث؟ < كان عمري آنذاك 22 سنة، وقد عشت أمورا بشعة جدا، من خلال تصرفات الإنقلابيين، فالفرق بين الحياة والموت كان بسيطا جدا، كان أقل من شبر. اللغة الوحيدة التي كانت هي لغة الخوف والتخويف، لأن أي كلمة كانت ستؤدي بك إلى الموت بالرصاص. وكانت تلك أول تجربة لي ولنا جميعا مع الانقلاب، فقبل تلك المرحلة لم يكن أي واحد منا يفترض أن تقع مثل تلك الأحداث في بلادنا، التي كنا نراها فقط في التلفزيون، وعندما حصلت كانت بالنسبة لنا كابوسا، ونحن لم نستوعب ما وقع إلا بعد عشرة أيام من وقوع الأحداث. لم نكن عسكريين ولم نكن نعرف ما هو النظام العسكري والصرامة العسكرية، لذلك فوجئنا، لأنه أعطيت لنا أوامر بعدم التحرك مطلقا من مكانا إلا بعد طلب الإذن. دخل الانقلابيون إلى ما يسمى (سي دي إم)، أي العقل المدبر للإذاعة وجمعوا فيه كل الصحافيين والموظفين، وكلما احتاجوا شخصا مثلا نادوا عليه، مثل عبد السلام عامر رحمه الله أو عبد الحليم حافظ الذي كان موجودا آنذاك داخل الإذاعة يسجل أغنية بمناسبة عيد الشباب، كما كان هناك الجوق الوطني بكامله، وبعض الزملاء في القسم الفرنسي مثل عبد اللطيف القباج، وأنا كنت قد غادرت مقر الإذاعة ورجعت في الثالثة لتسجيل برنامجي مع زميل آخر اسمه عبد القادر الخيام، ووجدت في باب الإذاعة وضعا غير عادي، ومكان رجال الأمن العاديين الذين كانوا دائما يقفون هناك رأيت أفراد الجيش، ولما دخلنا جمعونا في مجموعات وبقينا محاصرين. وهناك شيء لن أنساه أبدا، وهو مشهد الانقلابيين وهم يحاولون فتح باب استوديو 4، حيث يوجد القسم العربي، لأنهم كانوا يريدون الدخول إليه، لكنهم لم يجدوا المفتاح مع أي أحد، والغريب أنهم حاولوا تكسير الزجاج بأعقاب البنادق لكنه لم ينكسر، ولن أنسى سيدة كانت معنا اسمها ليلى بوعبيد، كانت تشتغل في القسم الإنجليزي بالإذاعة، لا أعرف أين هي اليوم، والتي تحركت من مكانها عندما سمعت صوت الهاتف, حيث توجهت إليه لترد على المكالمة فوجه إليها الشارجان عقا ضربة على رأسها بعقب بندقيته، ومن ذلك التاريخ بقيت تعاني منذ التداعيات الصحية لتلك الضربة حوالي عشر سنوات، وحتى الآن لا زلت أتذكر ذلك الموقف. - هل نجح الانقلابيون في فتح الأستوديو رقم 4؟ < الأستوديو رقم 4 يضم القسم العربي، وفي تلك الفترة كان ينتهي العمل فيه في الثانية بعد الزوال ويبدأ في الخامسة بعد الزوال، وعندما حضر الانقلابيون إلى مقر الإذاعة حوالي الرابعة والنصف تقريبا كان الاستوديو ما يزال مغلقا، ورغم أن الساعة الخامسة وصلت فلا أحد من الإذاعيين تجرأ على فتحه لهم، فاضطروا إلى الذهاب إلى الأستوديو 5 الذي كان مفتوحا، وفي تلك اللحظة كانت تبث الموسيقى فقط على الهواء مباشرة، وبين الحين والآخر كان يتم بث البلاغ الذي قرأه الموسيقار عبد السلام عامر. - كانوا في البداية يريدون أن يقرأ البلاغ عبد الحليم حافظ، ماذا وقع؟ < عبد الحليم كان متواجدا بالأستوديو رقم واحد يسجل أغنية وطنية بمناسبة عيد الشباب، وهم كانوا يريدون أن يقرأ هو بنفسه بلاغ الانقلاب، لكنه اعتذر إليهم وقال لهم إنه مصري ولا يمكن أن يقرأ البلاغ، ولما جاء الكولونيل اعبابو قال لهم إن عبد الحليم معه حق، لأنه مصري وليس مغربيا، فاضطروا إلى اللجوء إلى عامر الذي كان موجودا في الإذاعة برفقة زوجته التي كانت تقوده دائما، لأنه كان ضريرا، فقرأ لهم البلاغ، واختاروا شخصا آخر ليقرأ لهم البلاغ بالفرنسية، لم نعرفه حتى اليوم. لكن المدة التي مكث فيها الانقلابيون بمقر الإذاعة لم تتجاوز ساعة تقريبا، مضت علينا وكأنها عام، وقد حصل لهم ارتباك لأنهم لم يكونوا يعرفون الإذاعة جيدا ولم لم تكن لديهم أدنى فكرة عنها أو عن التلفزيون، فبدؤوا يسألون وقامت فوضى، وهو ما جعل الوقت يجري بدون أن يتمكنوا من فعل أي شيء.