لماذا لم يشترط الاتحاد الاشتراكي أن يتضمن التصريح الحكومي ل 24 أكتوبر 2007 التزاما بتطبيق توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة؟ في الآونة الأخيرة، باشر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تنفيذ مبادرتين إيجابيتين في حد ذاتهما. طبعا، هناك أوجه للنقد يمكن أن تطال، عموما، طريقة معالجة الحزب للقضيتين اللتين تتعلق بهما المبادرتان، ولكن ما أقدم عليه الحزب، إذا نظرنا إليه بصورة مجردة عن الاعتبارات الأخرى، يستحق التنويه. المبادرة الاتحادية الأولى تتمثل في الاتفاق داخل المكتب السياسي للحزب على تسليم مذكرة الإصلاحات الدستورية إلى القصر، والمبادرة الثانية تتمثل في تنظيم وقفة احتجاجية أمام المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان للمطالبة بكشف كامل الحقيقة في ملف الشهيد المهدي بنبركة. المبادرة الأولى تنطوي على عدد من العناصر الإيجابية، ومنها على وجه الخصوص: - المساهمة، بحكم وزن الاتحاد، في إعادة منح الصدارة لملف الإصلاح الدستوري، وبعث النقاش حوله في الساحة العامة. - التأكيد على أن دستور 1996 لا يمكن أن يكون أساس الانتقال الديمقراطي المأمول في المغرب. - تجاوز أحد أسباب الشرخ الذي نشأ داخل العائلة اليسارية المغربية وشطرها إلى فريقين: فريق معارض يطالب بالإصلاح الدستوري، وفريق يشارك في الحكومة ويشكك في جدوى وأولوية ذلك الإصلاح، ويمتنع عن المناداة به. - شعور الاتحاد الاشتراكي بأنه لم يعد مقيدا بالتزام معنوي ما، فرضه عليه موقع معين في الترتيب الذي عرفته بلادنا عام 1998، كان يقضي ربما بتجنب طرح قضية الإصلاح الدستوري خشية تأثير ذلك على علاقة الحزب بالملكية. - تشخيص المبادرة الاتحادية لنوع من النقد الذاتي، وظهور قناعة جديدة ربما بأن إنجاح أو استكمال «الأوراش الكبرى» أصبح يتطلب نوعا جديدا من الإصلاحات التي تتعدى الحكامة التقنية إلى معالجة طريقة انتشار السلطات، وعلاقتها بالمسؤولية والمساءلة وبنتائج صناديق الاقتراع. أما النقد الأساسي الذي يمكن توجيهه إلى المذكرة الاتحادية، كما بدت ملامحها من خلال الصحافة، فيتمثل في كونها ظلت سجينة مقاربة أبانت عن محدوديتها، وأنها – كما سبق أن أوضحنا ذلك في مقال سابق- لم تنزع إلى اقتراح الحد المباشر من صلاحيات الملك، وتركت له مساحة للتأثير الاستراتيجي على القرار في كل الأوضاع، ومنفذاً لممارسة السلطات المخولة لغيره، بما يتنافى مع قاعدة أن إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم، وأن تلك الإرادة يُعبر عنها بواسطة الانتخابات الدورية. إن «الصلاحية الكبرى» والحاسمة، التي يتعين أن تظل بين يدي الملك، هي صلاحية نقل بلادنا إلى نادي الملكيات الديمقراطية والحداثية، كأول سابقة حقيقية في العالم العربي. بوصول مذكرة الاتحاد الاشتراكي إلى القصر، يكون هذا الأخير قد توصل، حتى الآن، بمذكرتين في موضوع الإصلاح الدستوري، مذكرة الاتحاد ومذكرة الحزب الاشتراكي الموحد، وإذا كان لا يمكن لأحد الحزبين الزعم بأن مذكرته بلغت الكمال واقترحت الحلول الأكثر نجاعة لإشكالات الحكم في المغرب، فإن الحوار بين مناضلي الحزبين، ومع قوى التقدم والحداثة، يمكن أن يسمح بتطوير العمل المنجز حتى الآن على مستوى صوغ المقترحات والاتفاق ربما على تقديم مذكرة مشتركة، تكون أكثر تقدما مما يطرحه كل حزب أو جهة على حدة. المبادرة الثانية للاتحاد الاشتراكي، والمتمثلة في الوقفة التي نُظمت أمام المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، تحمل هي الأخرى عناصر إيجابية مؤكدة، ومن ذلك مثلا: - أنها بمثابة نداء قوي لإنجاز خطوة ملموسة في قضية المهدي، لأن ما هو أساسي في معالجة الملف لم يتم إلى حد الساعة. - أنها تأكيد على أن الإنصاف والمصالحة لا معنى لهما بدون معالجة هذا الملف والملفات الأخرى «العالقة». - أنها تعزيز لمسار المطالبة بتنفيذ توصيات التقرير النهائي لهيئة الإنصاف والمصالحة. - أن حضور المنظمات الحقوقية في الوقفة هو مؤشر على إمكان استئناف اليسار المشارك في الحكومة لتعاون أرحب مع المنظمات الحقوقية والقوى النيرة، في إطار برنامج عام للنضال الديمقراطي. لكن النقد الذي يمكن توجيهه إلى الوقفة يهم مستويين اثنين: - المستوى الأول يهم التوقيت والسياق؛ فلقد جاءت الوقفة كجواب عن الاتهامات التي وجهها السيد حميد شباط إلى شخص المهدي، وبالتالي فلو لم تصدر هذه الاتهامات هل كان الاتحاد الاشتراكي سيتخذ خطوة إيجابية كهذه؟ وهل كان من الضروري أن يرتبط توقيت الوقفة بتصريحات المسؤول الاستقلالي؟ لقد تفادت قيادة الاتحاد الاشتراكي، في البداية، الانجرار إلى معركة مع هذا المسؤول، ولكن تصريحاته في الجزيرة وضغط قواعد الشبيبة الاتحادية، دفعت المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي إلى الرد، وكانت الوقفة. وظهر من خلال أطوار هذه «المعركة» أن الأطراف السياسية في المغرب تنزلق أحيانا بسرعة قياسية إلى خوض الصراع السياسي بينها وفق ثلاث آليات: - صراع بالرموز: هناك اليوم صراع بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، وعندما يُمَس شخص المهدي فإن ذلك يُقدم كمس بالاتحاد، وعندما يقرر هذا الأخير خوض حملة للدفاع عن شخص المهدي، فهو يدافع عن نفسه. - صراع بالوساطة: فالمتصارعون الموجودون على الحلبة إنما جاؤوا نيابة عن اللاعبين الحقيقيين، وأحيانا نيابة عن لاعبين يتدثرون بثوب الحياد القشيب. - صراع بالتاريخ: فعوض مطارحة القضايا الخلافية بوضوح، يتم الهروب إلى التاريخ ونزع المشروعية عن الغريم باسم التاريخ، والزعم باحتكار المشروعية باسم التاريخ أيضا. إن التاريخ المسكين الذي تمت جرجرته اليوم عنوة وقسرا إلى ساحة تناقض حول المقاعد الحكومية وحول المشاركة والمعارضة والدستور والإضراب والاقتطاع من الأجور، هو تاريخ يخضع أصلا إلى معطيين أساسيين : فهو، أولاً، تاريخ مشترك، لا يمكن فيه فصل مسؤولية هذا عن مسؤولية ذاك. وهو، ثانيا،ً تاريخ طُويت صفحة تناقضاته بانبثاق الكتلة الوطنية ثم الكتلة الديمقراطية، وأصبح النبش فيه مهمة علمية ولم تعد قضية سياسية بين طرفي عن الحقيقة الحركة الوطنية. وإذا كانا قد تجاوزا مخلفات فصل من الصراع الدموي بينهما، فربما كان ذلك باقتناع كل منهما بأن لا أحد يمكن أن يخرج بريئا تماما من آثام ذلك الصراع. إلا أن توجيه اتهامات إلى صاحب مشروع حضاري كان سيحول وجه المغرب، والذي تعرض لأبشع عملية اغتيال سياسي في المغرب المستقل، ولم يُعلن عن الحقيقة بعد مضي 44 سنة على ذلك، ولم يُعرف مآل جثته، لهو عمل لا يراعي مشاعر الذين أحبوا الرجل، وأقاربه، وكل الذين ناضلوا طوال هذه الفترة من أجل الحقيقة. هناك قرائن واضحة على أن قيادة حزب الاستقلال غاضبة من الاتحاد الاشتراكي، ولا أدل على ذلك من كون القيادة المذكورة لم تصدر، حتى الآن، إشارة ملموسة لتطويق الآثار الناجمة عن تصريحات شباط؛ فهي تعتبر أن الاتحاد أخل بعقد ضمني يربطه بأقرب حلفائه، فعوض طرح مشاكل التدبير الحكومي في إطار الكتلة، والبحث سويا عن الحلول، اختار الاتحاد، وخاصة بعد المؤتمر الثامن، أن يلتحق رمزيا بالمعارضة. إن الخطاب الاتحادي اليوم، بخصوص طبيعة الحكومة الحالية وملابسات تشكيلها، يعتبر أنها تمثل خطوة إلى الوراء. المآل المنطقي لهذا التحليل هو مغادرة الحكومة، وهو ما لم يتم. فحزب الاستقلال يرى نفسه غير مسؤول عن هذا التناقض، ويرى ربما أن رفع شعار الإصلاح الدستوري اليوم يستهدف إحراج الوزارة الأولى نظرا إلى كون الاتحاد أحجم عن رفع الشعار خلال مرحلتي اليوسفي وجطو! إن العلاقة بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي علاقة معقدة ومركبة، فعندما يتسلم أحدهما زمام الوزارة الأولى، يتحول حليفه إلى وضع مشارك/معارض، وكذلك صنع حزب الاستقلال خلال ولاية اليوسفي، فالأمر بكل تأكيد لا ينم عن عاهة اتحادية . - أما المستوى الثاني للنقد الذي يمكن توجيهه إلى وقفة الاتحاد أمام المجلس الاستشاري، فيطال مسلك الاقتصار على وقفة أو شكاية في قضية بنبركة، وعدم بذل خطوات ملموسة ومعلنة من داخل الموقع الحكومي، فالاتحاد الاشتراكي لم يضع حل القضية ضمن سياق مشاركته الحكومية وعمله في موقع وزارة العدل، بل إنه قبل أيضا إصدار إشارات أو خطابات تفيد استكمال المصالحة، ولم يشترط، مثلا، قبل المشاركة في الحكومة الحالية أن يتضمن تصريحها المقدم أمام مجلس النواب في 24 أكتوبر 2007 الإشارة إلى التزامها بالمساهمة النشطة في تطبيق توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة؛ فالاتحاد يتصرف في قضية المهدي كما لو كان خارج أي موقع في السلطة، وعلى أنه مجرد حزب كبقية الأحزاب. فالرسالة الموجهة إلى رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، عقب الوقفة، تحثه على الكشف عن الحقيقة «باعتباره المؤتمن على إتمام أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة، وباعتباره المكلف من طرف جلالة الملك بالملفات التي لا زالت عالقة». ورئيس المجلس يرد بأن «العدالة الانتقالية لا يمكن أن تُفعلَ بصفة تامة إذا لم يكن هناك تواطؤ فاضل من طرف الضحايا ومرتكبي الانتهاكات والعدالة النظامية». الاتحاد يتحرك هنا بوصفه في موقع الضحية فقط، بينما هو يمسك بحقيبة وزارة العدل، ويتواجد في الحكومة التي يُفترض أن وزارة الداخلية جزء منها، وأن لها علاقة مع ممثلي مختلف الأجهزة الأمنية وتتواصل معهم. الاتحاد الاشتراكي، إذن، يطلب «حسم» المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وهذا الأخير يرد بطلب تعاون العدل والأجهزة التابعة للحكومة التي يشارك فيها الاتحاد. فهذا الأخير ليس مجرد حزب أسسه المهدي ولكنه، اليوم، طرف من الأطراف الحكومية التي يناشدها أيضا رئيس المجلس الاستشاري؛ وكأننا في لعبة تسديد الكرة وردها مباشرة على طريقة كرة الطاولة، وهذا وجه من أوجه «اللامسؤولية المنظمة». ما لم تقله رئاسة المجلس وقيادة الاتحاد أنهما معا في حالة انتظار وكفى..