مع ارتفاع الحالات المعلنة للإصابات المحتملة بأنفلونزا الخنازير في إسبانيا، ترتفع درجة اليقظة في المغرب، الذي نصب أجهزة لقياس الحرارة في مطاراته وموانئه، التي تستقبل مئات الآلاف من الزوار الأجانب والمغاربة المقيمين في الخارج عموما، وفي إسبانيا على وجه الخصوص. تعوّد الإسبان على لعب دور الجار المتحضر أمام المغرب، لذلك كانوا دائما يتخوفون من أن تنتقل إليهم الأمراض من جارهم الجنوبي. وفي مناسبات كثيرة، كان المسافرون المغاربة يصلون إلى ميناء الجزيرة الخضراء ويجدون في الجمارك براميل بلاستيكية كبيرة مكتوب عليها بالإسبانية والعربية: «المرجو رمي الأكل هنا»، يعني أن الإسبان يتخوفون من نقل الأمراض من المغرب إلى إسبانيا عبر الأكل أيضا، ويكون المسافرون المغاربة مضطرين إلى التخلص من مأكولاتهم الخفيفة أو أي شيء يؤكل. وعندما ظهر في المغرب، بشكل محدود، الطاعون الأزرق بين قطعان الماشية، فإن سلطات مدينتي سبتة ومليلية منعت على المسلمين بها استيراد الأكباش من المغرب خلال عيد الأضحى، وفرضت حظرا كاملا على استيراد اللحوم من المغرب. الإسبان يعرفون جيدا أنهم يبالغون كثيرا في تقدير حجم المخاطر الصحية القادمة من المغرب نحوهم، ولم يسبق، في يوم من الأيام، أن انتقل مرض خطير من المغرب إلى إسبانيا، بل العكس هو الصحيح، حيث تقول المصادر التاريخية إن آخر طاعون مهلك انتشر في العالم كان يسمى «الطاعون الإسباني»، وانتشر سنة 1918، وقتل 40 مليون شخص في مختلف مناطق العالم، بما فيها المغرب، مع أن ضحايا الحرب العالمية وقتها لم يزيدوا عن 18 مليون شخص. اليوم، يقوم المغرب بإجراءات احترازية معاكسة في مواجهة الأنفلونزا القادمة من إسبانيا. وعندما ظهرت الحالات الأولى في البلاد قبل حوالي أسبوعين، فإن المغاربة أحسوا بأن الخطر يوجد قرب أنوفهم، خصوصا وأن أزيد من مليون مهاجر مغربي يعيشون في إسبانيا، والمئات منهم ينتقلون في رحلات يومية، جوا وبحرا، نحو المغرب، وهو ما يعني أن المغرب لن يكون محصنا ضد الأنفلونزا المكسيكية. كانت إسبانيا من البلدان الأوربية التي ظهرت فيها أعراض الإصابة ب«أنفلونزا الخنازير»، والسبب هو أن جالية مكسيكية كبيرة تعيش بها، كما أنه توجد رحلات جوية دائمة بينها وبين المكسيك، وهناك سياح إسبان كثيرون يفضلون قضاء عطلهم في ذلك البلد اللاتيني. المغرب، الذي لا يفصله عن إسبانيا سوى 14 كيلومترا، هي طول مسافة مضيق جبل طارق، سارع إلى وضع أجهزة لقياس الحرارة في ميناء طنجة الذي تصله رحلات بحرية كثيرة من ميناءي الجزيرة الخضراء وطريفة، وأيضا في مطار ابن بطوطة الذي تصله ثلاث رحلات جوية من إسبانيا، اثنتان من العاصمة مدريد وواحدة من مدينة برشلونة، بالإضافة إلى رحلات أخرى من مختلف المطارات الأوربية. طنجة، المدينة الأقرب إلى إسبانيا، تعتبر معنية أكثر من غيرها بهذا الخطر، ليس فقط بسبب القرب الجغرافي واستقبالها لمسافرين كثيرين قادمين من إسبانيا، بل لأنها أيضا تحتضن جالية إسبانية كبيرة نسبيا، رغم أنها لم تعد بنفس حجم الجالية التي كانت تعيش بها سابقا. الإسبان الموجودون بطنجة حاليا أغلبهم مستثمر أومقاول أو موظف في جمعيات مختلفة أو دبلوماسي، وهؤلاء دائمو التنقل بين المدينةوإسبانيا. لهذه الأسباب، فإن أجهزة قياس الحرارة الموجودة بالميناء والمطار يفترض أن تكون الأكثر انتباها، ويفترض أن يكون مسؤولو المدينة متيقظين أكثر بكثير من مسؤولي باقي المدن المغربية. في ميناء طنجة توجد لجنة صحية تراقب تفاصيل استقبال المسافرين، والأجهزة التي تم وضعها في محطات استقبال المسافرين لم تكشف، إلى حد الآن على الأقل وفق التقارير الرسمية، عن أية حالة مؤكدة للإصابة بالأنفلونزا. غير أن طريقة عمل هذه الأجهزة في طنجة يكتنفها بعض الغموض، حيث يلاحظ وجود تسامح غير مفهوم عندما تشتعل الأضواء الحمراء في أجهزة قياس الحرارة، وهو ما يعني أن المسافر يجب أن يخضع في الحين لفحوصات طبية في نفس المكان، غير أن ذلك لا يحدث غالبا، ويطلب المشرفون على الجهاز من المسافر «المشتبه في إصابته بالداء» أن يمر ثانية تحت الجهاز، وعندما لا يشتعل المصباح الأحمر فإن المسافر يذهب إلى حال سبيله، مع أن اشتعال المصباح الأحمر لا يمكن أن يكون من دون تفسير. في هذه الحالة، إما أن الجهاز «مخربق» أو أن عقلية المشرفين عليه «مخربقة». لكن، ومهما كانت الإجراءات الصحية والأمنية المتخذة في مطار وميناء طنجة، فإن المخاطر يمكن أن تأتي بطريقة لا أحد يتوقعها، لذلك عندما أعلنت سلطات مدينة سبتة عن أول حالة مشتبه في إصابتها ب«أنفلونزا الخنازير»، ورغم أن هذه الحالة لم تتأكد بعد ذلك وتم إخلاء سبيل المصاب، فإن المغاربة وضعوا أيديهم على قلوبهم لأسباب كثيرة، السبب الأول هو أنه تم الإعلان بعد ذلك عن ثلاث حالات أخرى مشتبه في حملها للفيروس بنفس المدينة، وهي أولى الحالات بشمال إفريقيا، والسبب الثاني هو أن سبتة توجد ضمن التراب المغربي جغرافيا، رغم أنها تابعة لإسبانيا سياديا، والسبب الثالث أن سبتة يعيش بها حوالي 50 ألف إسباني من أصول مغربية، والذين يتنقلون باستمرار إلى المدن المغربية المجاورة لأن لهم بها ارتباطات عائلية وأسرية، بالإضافة إلى مصالحهم الاقتصادية. والسبب الرابع، وهذا هو الأهم، أن 30 ألفا من المغاربة يدخلون كل صباح إلى سبتة من أجل جلب أطنان من السلع المهربة وإعادة بيعها في أسواق مختلف المدن المغربية. والمثير أن الثلاثين ألف مغربي الذين يدخلون سبتة يوميا لا ينتمون فقط إلى مدن الشمال، بل يأتون من مختلف مناطق البلاد، بما فيها مدن الجنوب، وأسواق سبتة أصبحت اليوم معروفة في المغرب كله وليس فقط في تطوان أو طنجة. هؤلاء المهربون الصغار، أو التجار بعبارة ألطف، لا يمكن أن يخضعوا يوميا للمرور عبر جهاز قياس الحرارة، لأن ذلك يتطلب يوما كاملا، وهذا يعني إفلاسهم تجاريا. لكن هناك مسألة أخرى على قدر من الطرافة، وهي أن أجهزة قياس الحرارة تعتبر حساسة للحرارة كيفما كانت نسبتها، وسواء كان المار عبرها مصابا بالحمى أو الأنفلونزا، فإن الضوء الأصفر، على الأقل، سيشتعل، وهو يمثل لون الشبهات، وفي حال ارتفاع الحرارة قليلا فإن المصباح الأحمر سيشتعل، وإذا عرفنا أن كل العابرين في ممر سبتة يعانون من درجة حرارة مرتفعة، بسبب بقائهم في الشمس لمدة طويلة وكذا بسبب حملهم لعشرات الكيلوغرامات من السلع، وأيضا بسبب التوتر، فإن هذا يجعل حرارة أجسادهم ترتفع، وبذلك فإن المصباح الأحمر في جهاز قياس الحرارة لن يتوقف عن الاشتعال. إنها مشكلة حقيقية، وللمسؤولين عن هذا المعبر الحدودي أن يبحثوا لها عن حل، خصوصا وأن المهم بالنسبة إليهم هو أن يحصلوا على ذعائر من عابرين، وليس معرفة ما إن كانوا يحملون أنفلونزا أم لا. المهم أن يحملوا المال في جيوبهم.