في عصر البريد الإلكتروني، والرسائل الهاتفية القصيرة، وال"فيسبوك" وال"تويتر"، أصبحنا ملزمين بالقيام بالعديد من الأشياء في الآن نفسه. لكن ممارسة عدة أشياء في الآن نفسه لديها تأثير سلبي على الدماغ، بسبب إدماننا الكثيف على استخدام التكنولوجيا الحديثة التي تجعل قدراتنا الذهنية أقل فعالية جراء ذلك الاستعمال. في الوقت الراهن، أصبحت عقولنا منشغلة أكثر من أي وقت مضى. ففي كل لحظة تداهمنا الوقائع، والمستجدات، وما يدور في فلكها من إشاعات وحقائق غير مكتملة، متخذة شكل معلومات جديدة ينبغي على الدماغ معالجتها. إن محاولة معرفة الأمور التي يتعين علينا الإلمام بها والأشياء التي ينبغي تجاهلها تمرين مرهق جدا. وفي نفس الأثناء، فنحن لا نكف عن ممارسة المزيد من المهام. فقبل ثلاثين عاما، كان وكلاء الأسفار هم من يتكلفون بحجز تذاكر الطائرات والقطارات، وكان وكلاء المبيعات هم من يساعدنا في العثور على ما نريد داخل محلات التسوق، وكانت المراسلات من اختصاص السكرتيرات. أما الآن، فنقوم بالجزء الأكبر من هاته المهام بأنفسنا. فنحن نقوم في الوقت الراهن بممارسة مهام 10 أشخاص في الآن ذاته، محاولين في الآن ذاته عدم فك الارتباط بحياتنا الشخصية، والعلاقات القائمة مع أولادنا وآبائنا، وأصدقائنا، ومحيط العمل، فضلا عن ممارسة هوياتنا، ومتابعة برامجنا التلفزيونية المفضلة. لقد تحولت هواتفنا الذكية إلى أداة لممارسة عدة وظائف في الآن نفسه؛ إذ يمكن تشغيلها كقاموس، وآلة حاسبة، ويمكن الاعتماد عليها في تصفح الشبكة العنكبوتية، واستقبال الرسائل الإلكترونية، وتحديد المواعيد، وضبط إيقاعات الغيثار، ومعرفة توقعات أحوال الطقس، وتحديد المواقع، وغيرها. أصبحت هاته الأجهزة جد فعالة وأصبحت تتفوق على أعتى الحواسيب التي ظهرت قبل 30 عاما. كما أننا نستعملها طوال الوقت، مما يجعلها جزءا من هذا الهوس الذي ظهر في الألفية الثالثة، والمرتبط بالقيام بكل شيء في مكان محدد ولحظة زمنية محددة. قد يقوم الواحد منا بكتابة رسالة قصيرة على هاتفه، بينما يكون بصدد عبور الشارع، أو مطالعة رسالة إلكترونية أثناء انتظار دوره في الصف. بيد أن كل هاته الأمور الإيجابية تخفي ورائها عيبا لا يظهر من الوهلة الأولى. فرغم أنه قد يهيأ لنا بأننا نقوم بعدة أشياء في الآن ذاته، فإن القيام بأشياء متعددة في الآن نفسه (multitasking) هو في حد ذاته خدعة قاتلة. وفي هذا الصدد، يقول اورل ميلر، المختص في علم الأعصاب بمعهد "ماساتشوستس" للتقنية، وأحد خبراء العالم المختصين في تشتت الانتباه، إن أدمغتنا ليست "معدة لممارسة عدة مهام في الآن نفسه.. حينما يعتقد الناس بأنهم يمارسون عدة مهام في الآن نفسه، فإن ما يقومون به في الواقع هو الانتقال من ممارسة مهمة لأخرى بسرعة كبيرة. وفي كل لحظة يقومون فيها بذلك، تكون لذلك تبعات على الدماغ". وبالتالي، وبدل الإمساك بكرات عديدة تتقافز في الهواء مثل بهلواني خبير، فإننا نتصرف كهاو يتنقل بشكل هستيري من ممارسة مهمة إلى أخرى، متجاهلا المهمة التي يتعين عليه إتمامها بسبب انشغاله بالمهمة الأخرى القادمة. وحتى عندما يهيأ لنا بأننا ننجز الكثير من الأشياء في الآن نفسه، فإن ممارسة مهام متعددة يجعلنا بشكل واضح أقل فعالية. الكورتيزول والأدرينالين أبانت الدراسات بأن ممارسة عدة مهام في الآن نفسه تتسبب في ارتفاع وتيرة إفراز الجسم لهرمون الكورتيزول المسؤول عن ضبط الضغط النفسي، وكذا هرمون الأدرينالين المسؤول عن تحضير الجسم لأخذ رد الفعل المناسب، وهو ما قد يتسبب في جعل الدماغ يفرز هذين الهرمونيين بشكل أكبر، مما يتسبب في تشتيت الانتباه والتركيز. كما أن ممارسة عدة مهام في الآن نفسه يتسبب في تعود الدماغ على الحصول على جرعة زائدة من هرمون الدوبامين (ناقل عصبي يعمل مع الدماغ لضبط الحركة والإحساس)، وهو ما يكافئ الدماغ بشكل فعال لدى فقدان الانتباه وبحثه بشكل متواصل عن محفزات خارجية. الأدهى من ذلك، هو أن القشرة الأمامية للدماغ يسترعي اهتمامها بشكل سريع أي أمر مستجد؛ وبالتالي فإن هاته المنطقة التي تسهل عملية التركيز على شيء واحد لا تمارس دورها بشكل فعال أثناء التعامل مع عدة أنشطة متداخلة. فحينما نقوم بالرد على الهاتف، والبحث عن شيء ما على الشبكة العنكبوتية، ومطالعة البريد الإلكتروني، وإرسال الرسائل القصيرة، تجعلنا كل هذه الأنشطة نفعل المناطق المسؤولة عن استقبال المستجدات في الدماغ، مما يجعل الدماغ يفرز مادة أفيونية تجعلنا نحس بالنشوة، وذلك على نقيض التركيز على أمر واحد. وبدل جني ما يدره المجهود المتواصل والمركز من مكافآت، نحصد مكافآت فارغة بعد إنهاء ممارسة الآلاف من المهام الصغرى. في الماضي، حينما كان يرن الهاتف، كان في إمكاننا عدم الرد عليه، لأن لا أحد كان يتوقع أنه في الإمكان أن نتواجد طوال الوقت قرب الهاتف. أما في الوقت الراهن، فعدد الأشخاص الذين يملكون الهواتف المحمولة يفوق عدد الذين يملكون مراحيض في أماكن سكناهم. خلق هذا الأمر احتمالا ضمنيا بأنه في إمكانك التحدث مع أي شخص متى شئت ذلك، سواء كان ذلك ملائما بالنسبة له أم لا. في المقابل، فإن مجرد ظهور أي فرصة لممارسة عدة مهام في الآن نفسه تكون له عواقب وخيمة على الأداء الذهني. وفي بحث علمي أجراه أستاذ علم النفس، غلين ويلسون، توصل إلى أنه في الحالة التي يحاول فيها الشخص التركيز على مهمة محددة، قد يتسبب عدم فتح بريد إلكتروني توصل به نفس الشخص في تراجع نسبة الذكاء بعشر نقاط. كما أوضح ويلسون أن ما نفقده من الناحية المعرفية أثناء ممارسة عدة مهام يفوق بكثير ما نخسره في حال استهلاك القنب الهندي. كما توصل روس بولدراك، العالم المختص في الجهاز العصبي بجامعة "ستانفورد"، إلى كون عملية تلقي معلومات جديدة أثناء ممارسة عدة مهام في الآن ذاته يتسبب في تنقل المعلومات الجديدة إلى المنطقة الخاطئة بالدماغ. وإذا قام الطلبة، على سبيل المثال، بمراجعة دروسهم ومشاهدة التلفاز في الآن ذاته، فإن المعلومات التي يطلعون عليها في مقرراتهم الدراسية تذهب إلى منطقة بالدماغ مسؤولة عن تخزين الأساليب والمهارات الجديدة، وليس المنطقة المسؤولة عن تخزين الأفكار والمعطيات. ومن دون وجود التلفاز مع التشويش الذي يتسبب فيه، تنتقل المعلومات إلى المنطقة المسؤولة داخل الدماغ عن ترتيب المعلومات وتصنيفها بطرق متعددة، يسهل من خلالها استحضارها في الوقت المناسب. ويضيف أورل ميلر، الباحث بمعهد ماساتشوستس، أن "الأشخاص لا يستطيعون القيام بعدة مهام في الآن نفسه بشكل جيد، وحتى عندما يقولون إن في وسعهم القيام، فهم يخادعون أنفسهم فقط." وعلى ما يبدو، فالدماغ يجيد ممارسة عملية الخداع هاته. معضلات العصر الراهن من جهة أخرى، يتطلب القيام بعدة مهام في الآن نفسه القدرة على اتخاذ القرارات بسرعة كبيرة. فمثلا؛ هل أرد على هذه الرسالة القصيرة أم أتجاهلها؟ كيف أتعامل مع هذا الأمر؟ كيف أرد على هاته الرسالة الإلكترونية؟ هل أواصل الاشتغال أم أحصل على قسط من الراحة؟ هذه عينة ضئيلة من بعض الأسئلة التي تدور في الدماغ والتي يتعين عليه التعاطي معها، مع ما يتطلب ذلك من جهد. كما تتسبب ضرورة اتخاذ القرارات في كيفية التعامل مع عدة أشياء في الآن ذاته في فقداننا الرغبة في التحكم في مجريات الأمور. قد يدخلنا هذا الأمر في دوامة قد تتسبب لنا بعد اتخاذ الكثير من القرارات في اتخاذ قرارات جد سيئة بخصوص أمور غاية في الأهمية. كما أصبح الكم الهائل من الرسائل الإلكترونية التي تصلنا أحد معضلات العصر الراهن؛ لاسيما أننا نحس بأننا مجبرون على الرد على الرسائل الإلكترونية، رغم أن ذلك قد يكون مستحيلا أثناء القيام بأشياء أخرى. فقبل الرسائل الإلكترونية، كان ينبغي تخصيص حيز زمني مهم للرد على الرسائل التي تصلنا. وبما أن عملية كتابة الرسائل كانت تمر عبر عدة مراحل، وتتطلب بعض الجهد والوقت، فقد كنا لا نزعج أنفسنا بالرد عليها ما عدا في الحالة التي نود خلالها في التعبير عن شيء غاية في الأهمية. في المقابل، أدت السهولة البالغة في بعث الرسائل الإلكترونية إلى تحول في اللياقة والتعاملات، بعدما أصبحنا نقدم أكثر من أي وقت مضى على تقديم طلبات بطريقة غير مهذبة. وحتى وقت قريب، كانت مختلف وسائل التواصل التي نستخدمها تحمل في طياتهاك صلة بالموضوع وأهميته والهدف من ورائه. فإذا قام شخص عزيز على قلبك بالتواصل معك من خلال قصيدة أو أغنية، كان يسهل التعرف على الطبيعة العاطفية للرسالة حتى قبل الشروع في التعرف على فحواها. وإذا قام نفس الشخص بالتواصل معك من خلال وثائق رسمية، يتكلف بإيصالها عون قضائي، ستتوقع حتما أنك ستطلع على معلومة مختلفة حتى قبل الشروع في مطالعة الوثيقة. على نفس المنوال، كان يتم اللجوء إلى المحادثات الهاتفية في الغالب لإجراء معاملات تجارية تختلف عن تلك المرتبطة بالتلغراف أو المراسلات التجارية. كانت الوسائط التي يتم الاعتماد عليها في التواصل تكشف عن محتوى الرسالة قبل مطالعة محتواها. بيد أن كل هاته الأشياء تغيرت في عصر الرسائل الإلكترونية، بما أنها أصبحت تستخدم في كل شيء؛ وهي أحد النقط السلبية التي لا يتم الانتباه إليها في الاعتماد على الرسائل الإلكترونية. في الماضي، كان يسهل تصنيف الرسائل إلى الرسائل الشخصية والفواتير والمراسلات الرسمية. بيد أن الرسائل الإلكترونية تستخدم اليوم لكل الأغراض؛ وهو ما يجعلنا نداوم على مطالعة الرسائل التي تصل إلى بريدنا الإلكتروني لأننا لا نعرف على وجه التحديد إن كانت الرسالة القادمة تحمل خبرا سارا، أو فاتورة ينبغي تسديد ثمنها، أو إحدى المهمات التي ينبغي تنفيذها، أو طلبا عاجلا، وغيرها من الأشياء التي ينبغي اتخاذ القرار بشأن إنجازها على الفور، أو تأجيلها أو تجاهلها كليا. حالة الإبهام هاته تتسبب في الإخلال بمنظومة تصنيف الأشياء وترتيبها داخل الدماغ، وهو ما يتسبب في الضغط النفسي، وتصاعد الضرورة الملحة لاتخاذ القرارات. فكل رسالة إلكترونية نتوصل بها يتطلب التعامل معها اتخاذ القرار المناسب. هل أرد على هاته الرسالة أم لا؟ إذا كنت سأقوم بذلك، هل أفعل ذلك الآن أم أؤجل ذلك؟ ما هي درجة أهمية هاته الرسالة؟ ما هي العواقب الاجتماعية والاقتصادية، في حال رفضت الرد، أو قمت بذلك في الحال؟ عصر الرسائل القصيرة في الوقت الراهن، تقترب الرسائل الإلكترونية من أن تتحول إلى وسيلة للاتصال آيلة إلى الزوال. فجل الأشخاص الذين يقل سنهم عن الثلاثين يعتبرون الرسائل الإلكترونية وسيلة اتصال لا تساير العصر يستخدمها فقط "كبار السن". وبدلا عن ذلك، أصبح الشباب يعتمدون على الرسائل الهاتفية القصيرة، فيما يعتمد آخرون على موقع ال"فيسبوك" للتواصل. ويقومون بتحميل الوثائق والصور ومقاطع الفيديو والروابط الإلكترونية مع رسائلهم القصيرة وما ينشرونه على ال"فيسبوك"، بنفس الطريقة التي يقوم من خلالها من يتجاوز سنهم الثلاثين بالتواصل عبر البريد الإلكتروني. كما أن العديد من الأشخاص الذين يقل سنهم عن العشرين يعتبرون موقع ال"فيسبوك" وسيلة اتصال خاصة بالأجيال التي تكبرهم. وبالنسبة لهؤلاء، أصبح تبادل الرسائل القصيرة الوسيلة الأولى للتواصل. تمنح الرسائل القصيرة هامشا أكبر من الخصوصية مقارنة بالمكالمات الهاتفية، وطابعا فوريا لا يمكن الحصول عليه من خلال تبادل الرسائل عبر البريد الإلكتروني. بيد أن الرسائل الهاتفية القصيرة تجتمع فيها جميع النواقص المرتبطة باستعمال البريد الإلكتروني، فضلا عن نقط سلبية أخرى. وبما أن استعمال الرسائل الهاتفية القصيرة مرتبط باستعمال عدد محدود من الكلمات، فذلك لا يعزز النقاش بشكل مستفيض ويغيب التفاصيل على كافة المستويات. علاوة على ذلك، تتفاقم المشاكل المرتبطة باستعمال الهواتف بسبب الطابع الفوري لتبادل الرسائل القصيرة. فرسائل البريد الإلكتروني تتطلب بعض الوقت من أجل الوصول عبر الشبكة العنكبوتية، وتتطلب القيام بفتحها بشكل واضح. أما الرسائل الهاتفية القصيرة فتظهر بشكل سحري على شاشات هواتفنا وتتطلب التعامل معها بشكل فوري. وإذا أضفنا لذلك كون عدم الرد على رسالة قصيرة يعد بمثابة إهانة للشخص الذي قام بإرسالها، فذلك يوفر الخلطة المثالية للإدمان على استخدام الرسائل القصيرة؛ فكلما توصلت برسالة قصيرة على هاتفك يفعل ذلك مناطق تلقي المستجدات داخل الدماغ. وعند القيام بالرد على الرسالة القصيرة تحس بأنك تلقيت مكافأة بسبب إتمامك تنفيذ المهمة (رغم أن تلك المهمة لم تكن تتوق القيام بها قبل 15 ثانية فقط). كل هذه الأنشطة تؤدي إلى إفراز الدماغ لمادة الدوبامين. وفي كل مرة نرسل فيها بريدا إلكترونيا أو نتلقاه، نحس بأننا قد نجحنا في إنجاز أمر معين، وهو ما يجعل الدماغ يفرز جرعة من الهرمونات ليكافئنا على إتمام تنفيذ الأمر المعين. في كل مرة نقوم فيها بمطالعة مستجدات حسابنا على مواقع مثل ال"تويتر" وال"فيسبوك"، نصادف شيئا مستجدا ونحس بأننا أكثر تواصلا اجتماعيا (بطريقة غريبة من خلال ما تتيحه التكنولوجيا) ونحصل جراء ذلك على جرعة إضافية من الهرمونات التي تكافئ الدماغ، وهو ما يجعلنا ندخل في دوامة الإدمان على استخدام البريد الإلكتروني، وال"فيسبوك" وال"تويتر". * بتصرف عن "الغارديان"