منهم سيء الحظ، وقع في قبضتهم وكان الموت مصيره المحتوم، أما من اعتبر سعيد الحظ بعد أن نجا بأعجوبة منهم، فعاش تعيسا وخائفا ومحروما من أبسط حقوقه كطفل. إنهم الأطفال «الزوهريون» أو من تجري فيهم دماء ليست كباقي دماء البشر العاديين. فهي دماء يسيل لها لعاب الباحثين عن الكنوز المخبأة تحت الأرض ويخنع أمامها الجن الذين يحرسونها كما هو رائج لدى المشعوذين والدجالين، والذين يؤمنون بقدرات هذا الطفل الذي لا ينتسب في عرفهم إلى طينة البشر، بل إلى ذرية الجن، تم استبداله حين ولادته بمولود من بني البشر. «المساء» تفتح ملف هؤلاء وتروي على لسانهم ولسان عائلاتهم كيف حولت علامة ظاهرة في راحة اليد أو بؤبؤ العين وأخرى خفية في أخمص القدم أو في اللسان حياتهم إلى قلق وإلى لعنة تطارد أولادهم. نجح «عثمان» و«نادية» في الإفلات بجلديهما، بأعجوبة، من محاولة اختطاف من طرف مشعوذين باحثين بأي ثمن عن طفل «زوهري»، غير أن الحياة التي منحت لهما كان مقابلها باهظ جدا. نادية وعثمان.. طفولة مغتصبة محاولتا اختطاف نجا منها عثمان بأعجوبة السنة الماضية، وفي كل مرة كان الحظ حليف ابن الست سنوات بفضل المكان الذي كان موجودا فيه، ألا وهو الحارة الضيقة التي لا تكاد تخلو من المارة، والزمان الذي وجدت فيه سيدة وطفلة في اللحظة التي كانت تحاول أياد الاقتراب منه أو الإمساك به.. أياد يصفها الطفل ببراءة بأنها لشخصين «عندهم لحية كثة» يتمتمان بعبارة «تيو تيو». في المرة الأولى كانا يرتديان لباسا تقليديا عبارة عن «جلباب»، وفي المرة الثانية لباسا عصريا عبارة عن سروال وقميص. الحكاية تبدأ بمدينة مكناس أواسط السنة الماضية، وبالضبط بحارة شعبية، حيث كان عثمان يلعب مع أقرانه، فاقترب منه شخصان أحدهما تفحص يديه، فيما وضع الآخر يده على رأسه وشرع يتمتم بعبارات غير مفهومة في أذنه، ثم أمسكا بيده وجذباه خارج الحي الضيق، لكن صراخ سيدة من الجيران جعل الرجلين يطلقان ساقيهما للريح. بعد فترة وجيزة، عاد الرجلان إلى الظهور مرة أخرى بالحي وبخطة جديدة، اقتربا من الطفل الذي كان يلعب بالحي وأقنعاه بأن ابنة خالته تركب في السيارة الواقفة خارج الزقاق وتريد رؤيته. وبالفعل استجاب عثمان لهما، وقبل خطوات أخيرة ارتفع صوت طفلة وهي تردد عبارة «وغادي يديو عثمان» لتحبط محاولة الاختطاف، وتفتح بالتالي أعين والدي عثمان على أن طفلهما مستهدف لحمله علامات «الزوهريين» في راحتي يديه. خوفا على فلذة كبده، رفع الأب شعارين: لا للمدرسة ولا للعب خارج البيت، وحاولت جمعية «ما تقيش أولادي لحماية الطفولة» بعد دخولها على الخط ووضعها لشكاية لدى الوكيل العام للملك بالمدينة، إقناع الأب بإرجاع ابنه إلى المدرسة إلا أنه رفض بإصرار، تؤكد نجية أديب، رئيسة الجمعية، بعد أن أبلغها الأب أن المشعوذين قادرون على تنويم المدرسين مغناطيسيا، وبالتالي فإنه لا يضمن حياة طفله سوى بإبقاء الطفل حبيس البيت أو إلى حين إلقاء القبض على المشعوذين.. أصدر الأب قراره النهائي في حق طفله عثمان، والذي لا زال إلى حد كتابة هذه السطور حبيس أربعة جدران أربع وعشرون ساعة على أربع وعشرين، محروما من أبسط حقوقه كطفل. بدورها استطاعت «نادية»، التي تحمل صفات «الزوهريين»، قبل 7 سنوات، أن تنفذ بجلدها من براثن المشعوذين، وكل ما تتذكره أنها مع كل محاولة غريبة للإمساك بها والإلقاء بها في جوف سيارة «فاركونيت» كانت تطلق ساقيها للريح. المرة الأولى لمحاولة اختطاف «نادية» بدأت يوم 30 دجنبر، خلال عودتها من المدرسة إلى منزلها بدوار «معاقلة» بسيدي يحيى زعير، نواحي الرباط. ثم تلتها محاولة أخرى فاشلة في اليوم الموالي، لتعقبها محاولتين يومي 7 و9 يناير 2009، تواريخ لازالت محفورة في ذاكرة الطفلة ووالدتها «فاطنة». المرة الأولى كانت خلالها «نادية، ترافق جدتها إلى السوق الأسبوعي حين لمحت شخصا ينزل من سيارة من نوع «بيكا آب» بلحية وأشار إليها أن تتبعه، فأخبرت جدتها بالأمر والتي نهرتها بشدة. صباح اليوم الموالي، كانت نادية رفقة فتاتين في طريقهما إلى المدرسة التي تبعد ثلاثة كيلومترات عن الدوار، حين توقفت نفس السيارة ونزل منها رجل مقنع وحاول الإمساك بها، لكنها تمكنت من النفاذ بجلدها وهي تصرخ رفقة صديقتيها وعادت إلى منزلها في انتظار عودة والدتها التي تعمل خادمة لدى عائلة بمدينة «تمارة»، لتسرد عليها تفاصيل ما حدث. قصدت «فاطنة» درك سيدي يحيى زعير لوضع شكاية، فكان أن تصفح أحد الدركيين يد الطفلة لتقف الأم على أن ابنتها «زوهرية» وتدرك أي مصير يتربص بابنتها لو وقعت في قبضة المقنعين. واكتفى الدركي، تقول «فاطنة»، بتدوين رقم هاتفه على ورقة وطلب منها أن تتصل به إن رأت الخاطفين مرة أخرى. قررت الأم أن تصطحب طفلتها إلى المدرسة ممسكة بيدها بقوة، وحين اقتربت الطفلة من مدرسة «مولاي ادريس» وتركت يد والدتها متأهبة للدخول، كان شخص مقنع يقترب منها، فيما ظل ثلاثة آخرون داخل سيارة تختلف عن الأولى، إذ كانت زرقاء اللون بزجاج دخاني يحجب الرؤية، لتعود مسرعة إلى الارتماء في حضن والدتها التي هالها ما رأت ودفعها إلى الصراخ بقوة، فابتعد الأربعة بسيارتهم بسرعة عن المكان. قصدت الأم والطفلة درك سيدي يحيى زعير مرة أخرى، فكان الجواب قاسيا «إيلا خفتي على بنتك ما تصيفطهاش للمدرسة».. ثم تكررت المحاولات لتصير أربعا، حتى إن نادية في آخر محاولة تخلت عن حذائها الجديد وركضت حافية القدمين ووصلت إلى منزلها ورجليها متورمتين وملطختين بالوحل تلهث وقلبها يدق بسرعة فائقة. تدخلت جمعية «ما تقيش أولادي» على الخط وانتقلت رئيستها «نجية أديب» رفقة والدة الطفل إلى الدرك، وعبرت عن أسفها للامبالاة في التعامل مع قضية الطفلة نادية وعدم وجود محضر استماع إلى أقوال الأم خلال طرقها بابهم مرتين. وقررت الجمعية نقل الطفلة «نادية» إلى خيرية بباب الأحد بالرباط لتمكينها من متابعة دراستها الابتدائية، لكن هؤلاء المشعوذين تمكنوا من اقتفاء أثرها و معرفة عنوانها الجديد وكانت محاولتهم الخامسة أيضا فاشلة، مما جعل الأم خوفا على حياة ابنتها ترفع الراية البيضاء وترفع شعار «ما عندي ما ندير بهاد القراية» وتصدر حكما بالإقامة الجبرية على طفلتها لتلازم الأخيرة والدها العاطل عن العمل وتغتصب سنوات طفولتها وتتبعثر أحلامها الصغيرة داخل «براكتهم». اليوم وبعد وصولها سن البلوغ، أصبح دم «نادية» كباقي دماء البشر العاديين ولم يعد يسيل أمامه لعاب الباحثين عن الكنوز، وتبكي حالها التعيس الذي جعلها حبيسة أربعة جدران بعد أن حرمها حمل لقب «الزوهرية» من عيش حياة طبيعية مزهرة كقريناتها من بنات الجيران، وخاصة من استطعن أن يواصلن دراستهن، بعد أن لم يرحمها المشعوذون الباحثون عن كنوز مرصودة، ولم يحمها من لجأت إليهم والدتها يوما ما. اختفاء غامض دون أثر إذا كان (الحظ) قد اصطف بجانب «نادية» ولم تسقط في شباك المشعوذين، فإن صفات «الزوهري» المنطبقة على «رضوان المالكي» ذي الست سنوات، جعلته يختفي دون أثر بعد أن استطاعت العيون الشيطانية التي تترصده الإمساك به، حيث فصلت بين اختفاء «رضوان» ومحاولة اختطاف «نادية» أربعة أيام فقط. لا يبعد دوار «المعالقة» حيث تقطن عائلة نادية عن دوار «أولاد ملوك» حيث تقطن عائلة رضوان، وبين تاريخ آخر مرة شوهد فيها إلى يومنا هذا، تكون قد مرت ست سنوات، ولازالت عائلته تعيش على وقع كابوس. تشير والدته قائلة: «هناك تمت عملية اختطاف ابني رضوان الذي كان برفقة شقيقه الذي يكبره بست سنوات في طريقهما إلى المدرسة». عميلة اختطاف «رضوان» الناجحة سبقتها محاولة فاشلة، تؤكد والدته «رقية»، يوم 8 يناير 2009، حين ترجل ثلاثة أشخاص ملثمين من سيارة «فاركونيت» بيضاء اللون وتوجهوا نحو «رضوان» وشقيقه «لحسن»، اللذين نجحا في الهرب بسرعة والعودة إلى منزلهما وأخبرا والدتهما بالأمر، والتي لم تجد سببا مقنعا لمحاولة خطف ابنيها واتهمتهما باختلاق القصة حتى يتغيبا عن المدرسة. يوم 13 يناير 2009 والساعة تشير إلى 8 صباحا، كان الأخوان في طريقهما إلى المدرسة، التي تبعد بثلاثة كيلومترات عن الدوار، قطعا منهما كيلومترين اثنين وفجأة قطعت نفس السيارة الطريق عليهما وترجل ثلاثة ملثمين بسرعة فائقة وانتزعوا «رضوان» بقوة من يد «لحسن» رغم محاولة هذا الأخير الدفاع عن شقيقه، ثم رموه داخلا واستدار أحدهم ووجه كلامه ل«لحسن» قائلا:» قل لبّاك يدير الصدقة على ولدو» وانطلقت السيارة بسرعة جنونية، فعاد الصغير أدراجه نحو المنزل وهو يبكي من هول ما حدث ويخبر والدته التي وضعت شكاية لدى الدرك الملكي ووقفت على أن ابنها ضحية مشعوذين يتصيدون الأطفال «الزوهريين». رغم مرور السنوات الست لازال «لحسن» يعيش على وقع الصدمة، محملا لنفسه حتى الآن المسؤولية في اختفاء شقيقه.. سنوات لم تفلح في تجفيف دموع الأم «رقية» التي بحثت عن ابنها داخل الرباط وخارجه وبالمدن المغربية في كل مرة كانت تتلقى اتصالا من أشخاص يؤكدون رؤية طفل يحمل نفس مواصفات «رضوان». «مقطع، معور، المهم يردو ليا ولدي، على الأقل يكون ليه قبر نزورو ونترحم عليه». تقول «رقية» والدموع تنهمر من عينيها رغم أنها تعيش على أمل كبير أن يعود إليها ابنها يوما حيا، حيث ختمت حديثها معنا قائلة: «لدي إحساس أن ابني لازال على قيد الحياة.. سيعود يوما.. وأقسى ما عايشته حين أطلق البعض شائعة سخيفة تقول إننا كعائلة على علم بمصير رضوان وقبضنا ثمنا لصمتنا من المشعوذين». وليمة دم بشرية استطاعت العيون الشيطانية التي كانت تترصدهم أن تحولهم إلى وليمة دم دون رحمة أو شفقة كما هو حال الطفل «حمزة» بالدارالبيضاء، الذي يعد أحد أبشع ضحايا جرائم مشعوذي الكنوز. داخل سيارة سوداء.. هنا تبدأ قصة الطفل حمزة وهنا تنتهي عام 2012، إذ لم يثر خاطفوه أي شبهة خلال عملية ترصده واختطافه. الطفل «حمزة» ذو الثالثة عشر من العمر، يتيم الأب، كان يهم بشراء بعض الأغراض من البقالة لوالدته حيث يقيمان بسيدي مومن، فاعترضت سبيله سيارة سوداء اللون كان على متنها ثلاثة أشخاص مقنعين قاموا بطريقة هوليودية بحمله وإلقائه داخل السيارة لتنطلق بسرعة فائقة لم تترك أي مجال لمن عاين الحادث أن يتدخل لإنقاذ الطفل. أبلغت والدة «حمزة» الشرطة ولم تكف عن البحث عنه طيلة 15 يوما لتتلقى اتصالا من أقاربها بضواحي سطات، يستفسرون عن نوع وألوان الملابس التي كان يرتديها الطفل، بعد أن عثر رعاة في دوارهم على رأس وأضلع طفل وإلى جانبه وضعت ملابسه. ورافقت الأم عناصر الدرك الملكي بجماعة خميسات الشاوية، وهو مسقط رأس الطفل حمزة، للتعرف على الجثة، لكن ظلام الليل لم يسعفها للتأكد من أنها لفلذة كبدها، لتنتظر ضوء الصباح الذي كشف لها أن الرأس يعود إلى ابنها رغم بشاعته، إذ سلخت فروة رأسه واقتلعت مقلتاه معا قربانا للجن، ليسمح للمشعوذين بالحصول على الكنز المرصود. بدوره، عثر على الطفل حسام ابن القنيطرة الذي اختفى عام 2013 أيضا في ظروف غامضة من أمام منزلهم على الساعة الحادية عشرة ليلا، وكانت أول فرضية طرحتها الأسرة لهذا الاختفاء هي كون الطفل «زوهري» وقد تكون وراء اختفائه المفاجئ عصابات البحث عن الكنوز. وصدقت شكوك الأسرة بعد أن عثرت على ابنها المختفي جثة هامدة في مستودع الأموات، بعدما تم التخلص من جثته «بعد قضاء الغرض» برميه في نهر سبو. كيف يهتدي المشعوذون إلى هؤلاء الأطفال؟ سؤال لم تجد له «المساء» جوابا مقنعا حين أكد أحد «الفقهاء» أنه حين يهتدي فقيه مشعوذ إلى المنطقة التي يوجد فيها الكنز المرصود، يدخل في سجال مع الجن، وأن هذا الأخير كي يتنازل طواعية عن مفتاح خزائن «علي بابا» التي يحرسها، يحدد نوع «الوليمة»، هل هي بضع قطرات دم؟ أم إراقة دماء حتى الموت؟ أو عين أو رجل أو يد أو... ويحدد لهم مكان الطفل الراغب في أن تسيل دماؤه، الكثير منها أو القليل. يعمد المشعوذون والسحرة إلى أخذ الطفل «الزوهري» إلى مكان الكنز المجهول، ويعمدون إلى إحداث جرح في موضع معين من جسد الطفل ويأخذونه في جولة إلى المكان وحين تتوقف الدماء عن النزيف في مكان معين، يحدد مكان وليمة الجن ليشرب دم الطفل ويتم الشروع في الحفر للحصول على الكنز المرصود. لكن يبقى السؤال الذي لا إجابة له: هل يجد هؤلاء المشعوذون والسحرة فعلا مغارة «علي بابا» كما صورتها لنا كتب الأحاجي الشعبية بعد التضحية بطفل بريئ وحرق قلب أسرته عليه؟