مرة أخرى، يستيقظ العالم على هول مجزرة دموية، ذهب ضحيتها اثنا عشر صحفيا في فرنسا، منهم ثمانية من رجال الصحافة.. الجريمة التي هزت الرأي العالم العالمي، وعرفت تنديدا واسعا لازال صداه مستمرا حتى الآن، كان ضحاياها طاقم تحرير المجلة الأسبوعية شارلي إيبدو . طاقم المجلة، أو لنقل أغلبه، لن يستيقظ صباحا لممارسة عمله في المؤسسة الصحفية العريقة. رسامو الكاريكاتير، وهم الأكثر استهدافا بهذا العمل الإجرامي، سينتهي إبداعهم، والصحفيون كتاب المقالات ستكف أناملهم عن خط ما تنتجه بنات أفكارهم من آراء تعبر عن الخط التحريري الذي رسموه لمجلتهم. هذه النهاية المأساوية سببها أن جهة ما قررت أن تغتال مجلة شارلي إيبدو، لأنها -في تقديرها- قد تجاوزت الخطوط الحمراء، فكان لا بد من إهدار دم العاملين بها. مجلة شارلي إيبدو تأسست في الستينيات من القرن الماضي لتتم مصادرتها بعد مدة قصيرة بسبب خطها التحريري الجريء. وفي سنة 1970 عادت لممارسة نشاطها الصحفي؛ واختارت هذه الصحيفة، ذات التوجه اليساري، نهج الأسلوب الساخر باستفزاز لا يرحم مع الجميع، أي أنها في العمق لم تَكُنْ تُكِنُّ الحقد للإسلام الذي اتهمت بمعاداته، لاعتبارها إياه دينا يتميز عن باقي الديانات السماوية بالإرهاب، بل كانت تستهدف كل الديانات، سماوية كانت أو غير سماوية، وكل الشخصيات العامة، مهما كانت مكانتها وحساسية موقعها، رافعة شعار "لا للياقة السياسية"، بمعنى أن صحافي هذه المجلة، المتمردة، كانوا يؤمنون إيمانا قاطعا بأن لا أحد، كائنا من يكون.. شخصا كان أو ديانة، يمكن أن يظل في منأى عن نقدهم، وألا تطاله رسوماتهم الكاريكاتورية أو مقالاتهم الساخرة، مادام الحدث يستدعي ذلك. هذا الخط التحريري الذي يؤمن بالحرية المطلقة في ممارسة العمل الصحفي هو ما جعلها تتجرأ على رمز الأمة الإسلامية الرسول محمد (ص) الذي يعتبر شخصية مقدسة لا يجوز المساس بها لدى المسلمين. رئيس تحرير مجلة شارلي إيبدو وزملاؤه في هذه المجلة العتيدة لم يقدروا عواقب سلوك كهذا حين أقدموا على نشر رسوم كاريكاتورية مسيئة إلى رسول المسلمين؛ لم يدركوا جيدا أنهم قدموا سببا وجيها إلى أمراء الإرهاب كي يشحنوا عقول ووجدان شباب بأفكار حماسية، تدعوهم إلى التضحية بالنفس من أجل الدفاع عن الرسول الكريم ضد الهجمة الشرسة التي يتعرض لها من قبل الكفار، وعلى رأسهم طبعا هؤلاء الصحفيون الذين ذهبوا ضحية الإيمان بأن حرية التعبير هي بحر لا ساحل له. طبعا، نحن كمسلمين أو، على الأقل، أغلبيتنا العظمى، لا نتفق مع المس بأي دين سماوي أو غير سماوي؛ كما لا نتفق مع حرية التعبير التي تمس بالرسل والأنبياء: محمد (ص) وعيسى وموسى... لكن اختلافنا مع الآخر في التعبير عن نفسه، انطلاقا من القناعات التي يتبناها، لا تعطينا، نحن وغيرنا، الحق في قتل وإعدام من يجاهرنا بالإساءة إلى ديننا أو نبينا. السؤال الذي أود أن طرحه في متن هذا المقال هو كالتالي: لو كان الرسول الكريم بيننا هل كان سيأمر بقتل هؤلاء الصحفيين الذين أزهقت أرواحهم في مستهل هذه السنة؟ الإجابة، طبعا، ستكون لا، بدليل نقلي وعقلي على حد سواء، فأما الدليل النقلي فهو أن القرآن قد حرم القتل، لأن من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا؛ وأما الدليل العقلي فهو أن الرسول (ص) تعرض في حياته لتشويه كاريكاتوري من قبل خصومه في أشعارهم، التي لم يحتفظ منها بشيء مع الأسف، ولم يقتل أي أحد من أولئك الشعراء الخصوم، هو الذي كان يملك السلطة المطلقة في الفتك بهم ولم يفعل؛ كل ما سمح به عليه السلام هو أن يرد عليهم شاعره حسان بن ثابت بنفس الأسلوب ونفس المنطق. بعض المحسوبين على الدين الإسلامي يجهلون أو يتجاهلون قوله تعالى: "أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن". ويفضلون بدل هذه الآية: دمرهم وانسفهم بكل سلاح لأنهم كفرة فجرة ويحل دمهم لكل مسلم يحب الله ورسوله. المشكلة الآن هي أن هؤلاء الذين قاموا بهذا العمل الإجرامي باسم الدين الإسلامي، وقد يكونون غير عرب أصلا، قد أساؤوا -على حد تعبير طارق رمضان- إلى هذا الدين الذي يدعو إلى السلم والسلام من حيث كانوا يقصدون الدفاع عنه؛ هذا إن كانت نيتهم حقا تقصد ذلك، بل الأمرّ من كل هذا هو أن تصرفهم الأرعن سيزيد من الإساءة إلى جاليتنا العربية المسلمة في فرنسا وفي أوربا وأمريكا وفي كل الأصقاع التي لا تنتمي إلى العالم الإسلامي؛ مع العلم بأن صورة العربي في الغرب هي صورة لا تسر عدوا ولا صديقا.. سيزداد الخوف والحذر أكثر فأكثر من المسلمين، وسيظل أي عربي ومسلم متهما حتى تثبت براءته، وسيزداد التضييق على المسلمين والاعتداء عليهم، لا لذنب ارتكبوه سوى أن بعض الظلاميين من المحسوبين على ديانتهم قرروا أن يلجؤوا إلى القتل كوسيلة للرد على من يخالفهم الرأي. نتمنى أن تغلب الحكمة على التهور، وأن يهب المسؤولون للدفاع عن المسلمين وعلى جالياتنا في الغرب، لأنه لا يمكن للحقد أن ينتصر على المحبة والتسامح.