إن التفكير راهنا في الوضعية الثقافية بالمغرب، يستلزم التأسيس من منطلق التشخيص الموضوعي النقدي والعقلاني في الآن ذاته. وهو التشخيص الذي يفترض ملاءمة التلقي لهذه المنطلقات. ذلك أن وضعية الثقافة في زمن، لم تعد ذاتها اليوم. فإلى فترة كانت المسألة الثقافية تشكل رهانا على كافة المستويات، وبالأخص السياسي منها. ثم حضرت وعلى امتداد حقبة الحظوة الحزبية لهذه الثقافة مثلما لمؤسساتها، وهي الحظوة التي كان يخشى من تفاعل تأثيراتها، إذا ما ألمحنا لكون سؤال الثقافة في المغرب لم يكن ولن يكون إلا يساريا في نزوعاته وتوجهاته، بحكم أن الدور الفاعل لهذا السؤال ينهض على مكون الإصلاح وإحقاق الثقافة مكانتها الرمزية، وعلما بأن الموارد المادية التي روهن أو كان يراهن عليها لم تكن في الواقع تتيح إمكانات إيصال الصوت عميقا إلى مساحات أوسع مثلما يتأتى في الظرفية الراهنة. ذلك أن حصيلة من المكتسبات التي حظيت وتحظى بها الثقافة اليوم، قمينة برسم دور فاعل مؤثر وقوي، سواء على مستوى الداخل أو الخارج، إذ كان يكفي ذات زمن التنادي لندوة، أن تتفاعل ثقافة المشاركة، وبالتالي يرن الصدى مغربا ومشرقا، ليتضح بأن للمغرب صوته الثقافي المميز الفارض قوة حضوره في المؤتمرات والمنتديات، إلى مواقفه وتضامنه غير المشروط والقضايا التي فرضت وتفرض حضورها في الحقل السياسي، وعلى الواقع والإنسان العربي. إلا أن السؤال الذي يمثل ويتوجب تفعيل التشخيص انطلاقا منه، ما الذي حدث ليغدو سؤال الثقافة غير جدير بالاعتبار، وبالتالي غير فارض سلطة عرف بحيازتها وامتلاكها. فالثابت أن العلاقة بين السياسي/الثقافي لا يمكن تجاهلها، لكن بعيدا عن التصور الذي يستهدف هيمنة السياسي إذا ما بقي في المغرب ما يستحق أن يتصف بالصفة ذاتها، خاصة أن مجموعة من الأوراق اختلطت، لتنتج تحالفات مصلحية فاسدة الذوق في الجوهر والعمق، بعيدا عن المشاركة الفعلية للمثقف بالرأي والاقتراح. ذلك أن التنظيمات السياسية، سواء التقليدية أو التقدمية، وظفت المسألة الثقافية لأغراض «سياسوية». ومن ثم انجلت حقيقة توجهاتها، وانكشفت قناعاتها التي لم تكن في يوم راسخة، مادام شخص المثقف يشكل -وباستمرار- الصوت الذي يفضحه قلقه كلما أحس بأن الهواء الذي يتنفسه أو يراد له تقليديا ينزع تكريس الثابت بعيدا عن فتح آفاق التغيير الملائمة للظرف، كما التحولات التي تطال الواقع عربيا وعالميا. من هنا انبثق سؤال التوجه: أكان الطريق المنطلق خاطئا منذ البدء؟ قد يكون في ظل محنة الثقافة المغربية الراهنة. إذ لا يستساغ أن تترك مؤسسة اتحاد كتاب المغرب ومن خلال المؤتمرين الأخيرين كالأسد الجريح غير القادر على مواجهة اللحظة، إذا ما ألمحنا لسباق المقاعد الذي دأبت عليه هذه التنظيمات بغاية فرض سلطتها على النظام، وكأن الثقافة لا تعامل في ميزان المعرفة كثقافة، وإنما ورقة سياسية يراهن عليها كثقل. ويبدو لو أن طريق الاستقلالية حافظ على هيئته وصورته، لظلت نقاوة مرآة المؤسسة جلية مفتوحة على ميثاق الثقة والمصداقية، لا أن تتكالب المساعي تلو بعضها -فقط- بهدف تنظيم ندوة في تصوري لن تمتلك جدارة تأثيرها مادام كل شيء في هذه الأرض السعيدة يتحدث عنه، إلا المسألة الثقافية المركونة للهامش والصمت، وفتات ميزانية ثقافية تدار بمن هم في الأغلب الأعم بعيدون عن الهم الثقافي، بل لا يمتلكون الاسم الاعتباري الوازن في محافل ومنتديات الثقافة والفكر، فأين يا ترى زمن الروائي والناقد محمد برادة، والأستاذ الناقد والباحث أحمد اليابوري والروائي والشاعر محمد الأشعري، وقبلهم جميعا الأديب والسياسي عبد الكريم غلاب، وغيرهم كثير. على أن ما يثير إضافة للسابق، التجاهل شبه المطلق للثقافي، ومن خلال هذه المؤسسة العريقة، فالصفة التمثيلية والاستشارية التي يجب حيازتها على مستوى أكثر من مجلس وهيئة يتم الإجهاز عليها، وبالتالي تنصيب جمعيات مدنية لا تمتلك الصوت فبالأحرى الصدى. وكأن الأمر لما يتعلق بصناع المعرفة والفكر، فالضرورة تستلزم الحرب على الخلافي، الانتقادي والعقلاني. واللافت أن بنية المجتمع المغربي سياسيا لا تقبل بفضيلة النقد والانتقاد، وبالتالي تؤثر عليها : كن معنا وإلا فأنت تقود قطارا خارج السكة، أو أن واقع الحال تحجيم الدور التنويري النهضوي لمؤسسة اتحاد كتاب المغرب، وبالتالي الهيمنة على هيئة قد يرشح منها ضجيج لا أحد يتوقع امتداداته. ومن المؤسف أن يحدث ما يحدث في زمن الإرهاب والمد الأصولي على تباين واختلاف أذرعه، مثلما من المؤسف أن تكون الأرضية معدة ومهيأة للتنفيذ والتطبيق. إن المرتجى من ندوة وطنية حول الثقافة المغربية: 1- التفكير الجدي في وضعية الثقافة بالمغرب، من خلال ملامسة العناصر المتداخلة على كافة المستويات، لإحقاق هذه الثقافة دورها الفاعل والناضج، وبالتالي فرض قوة الحضور داخليا وخارجيا، ومن خلال الهيئات والمؤسسات جميعها. 2- إن مطالب الاتحاد ستظل نفسها، إذ لا يتوقع أن تتهاوى الأسماء من مبدعين وفنانين في وضعيات جد قاسية، مع رهان الحلم بأن يجود البحر بالمعروف، وبالجود ساحله. 3- لفت النظر إلى ضرورة إحياء ذكرى أسماء اعتبارية أسست لهذا الأدب والثقافة من قبيل الأدباء والكتاب: محمد زفزاف، محمد شكري، أحمد المجاطي، محمد عابد الجابري، المهدي المنجرة وقس على السابق. يبقى الأمل، كل الأمل أن تسمع هذه الندوة ضجيج الجبل.