طلبت وزارة الداخلية الفرنسية من مركز الوقاية من الانشقاقات الطائفية المرتبطة بالإسلام، الذي أسسته دنيا بوزار، الباحثة في الأنتروبولوجيا من أصول مغربية وجزائرية، إنجاز دراسة ميدانية حول الدوافع التي تجعل الشباب الفرنسي مقبلا على الانضمام إلى تنظيمات متطرفة كتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، فكانت النتائج صادمة جدا. فبعيدا عن الصور النمطية التي تكرست على امتداد السنوات الطوال داخل المجتمع الفرنسي بكون أبناء الضواحي الهامشية المنتمين للأسر المسلمة هم من يستهويهم الخطاب المتطرف والراديكالي، اتضح من خلال نتائج البحث الميداني أن الجماعات المتطرفة نجحت في الوصول إلى فئات عريضة من المجتمع الفرنسي. خرج تقرير نشر، مؤخرا، حول الفرنسيين المشاركين في العمليات القتالية إلى جانب التنظيم المتطرف «داعش» بخلاصات مزعجة؛ فأغلب المرشحين المحتملين للمشاركة في العمليات «الجهادية» هم من الفئات العمرية الشابة، وجلهم يتحدرون من الطبقة المتوسطة، وغالبية الأسر التي يتحدرون منها علماينة أو لادينية. هذا إضافة إلى كون الخطاب الأصولي أضحى يعتمد على الإمكانيات التي تتيحها الصورة والسينما والشبكة العنكبوتية من أجل نشر رسائلها واستقطاب فئات عريضة من الشبان الفرنسيين، الذين ليسوا بالضرورة من أبناء الأحياء الهامشية للمدن الفرنسية أو الأسر المسلمة الفقيرة. التقرير، الذي جاء خلاصة دراسة ميدانية أنجزها مركز الوقاية من الانشقاقات الطائفية المرتبطة بالإسلام (CPDSI)، توقف في البداية عند هذه النقطة بالذات التي أضحت مصدر قلق بالنسبة للمجتمع الفرنسي؛ إذ لم يعد الخطاب المتطرف يستهوي فحسب الفئات الهشة على المستوى الاجتماعي والأسري، بل أضحى مؤثرا حتى في أبناء الفئات الميسورة بفرنسا. وعزا التقرير هذا التحول إلى الدور الذي أضحت تلعبه العولمة في هذا الصدد، موضحا أنها مكنت الخطاب الديني من تأسيس مجال «افتراضي» لا يرتبط بالمجال الحقيقي. «يرتسم الشكل الجديد للتطرف الإسلامي في ظل هذا السياق، من خلال الاستعانة بالشبكة العنكبوتية كوسيلة للتواصل... وتتمثل قوة ودهاء التنظيمات المتطرفة في قدرتها على إقناع المسلمين وغير المسلمين على حد سواء بأنهم لا يقومون سوى بالعودة إلى أصول الإسلام»، حسب ماورد في التقرير حول هذا الأمر. التقرير، الذي يشكل ضربة قوية إزاء جميع الأفكار المغلوطة والمسبقة حول التطرف الديني، أوضح كذلك بأن «الجهاديين» الفرنسيين لا يتحدرون بالضرورة من أوساط اجتماعية هشة، كما هو الحال بالنسبة للفكرة الشائعة التي تقول إن أغلبهم عاشوا في السابق بالأحياء الهامشية للمدن الفرنسية. وحسب التقرير، فإن الأغلبية الساحقة من الفرنسيين المنتمين للتنظيمات الإرهابية تتحدر من الطبقة المتوسطة، بنسبة تصل إلى 67 في المائة، تقابلها نسبة 16 في المائة فقط بالنسبة للمنتمين للأوساط الفقيرة. وجاء التقرير، الذي تم إنجازه بطلب من وزارة الداخلية الفرنسية، ثمرة لستة أشهر من الاشتغال وتحقيق ميداني هم 160 عائلة فرنسية تشتكي من قيام أولادها بتغيير سلوكهم، أو اختاروا ممارسة «الجهاد». دنيا بوزار، التي أشرفت على إنجاز الدراسة، قالت في تعليقها على النتائج لإحدى الإذاعات الفرنسية: «الخطاب الإرهابي الجديد تمكن من الوصول إلى شبان يعيشون في ظروف جيدة، آباؤهم يشتغلون موظفين أو يمارسون مهنة التدريس، ويتقلدون في العموم المناصب المرتبطة بالطبقة المتوسطة». كما أوضحت دنيا بوزار، التي أنجزت الدراسة بالتشارك مع كريستوف كوبين، الذي اشتغل سابقا ضمن جهاز مكافحة الإرهاب، أن «80 في المائة من العائلات المعنية تقدم نفسها على أنها علمانية»، وهو ما يتناقض مع الفكرة المسبقة التي تقول إن الأسر التي تمارس الشعائر الدينية هي وحدها من يقوم أولادها بالانخراط ضمن الجماعات المتطرفة. وتتفاوت الانتماءات الدينية في صفوف نسبة 20 في المائة، بين البوذية، واليهودية، والمسيحية، والإسلام. كما أوضح التقرير أن العائلات التي اتصلت بمركز الوقاية من الانشقاقات الطائفية المرتبطة بالإسلام تحمل جميعها وبدون استثناء الجنسية الفرنسية، مؤكدا أن نسبة 10 في المائة من العائلات حلت بفرنسا عن طريق هجرة الأجداد، الذين قرروا الاستقرار بالمدن الفرنسية بعدما عاشوا بجزر الأنتيل، وألمانيا، والجزائر، وتونس، والمغرب، وبعض دول أسيا. وفيما يخص الانتماء الطبقي للفرنسيين، الذين تستقطبهم التنظيمات الإرهابية، أوضح التقرير أن العائلات التي اتصلت بالمركز تنتمي بنسبة تفوق 84 في المائة إلى الطبقات المتوسطة والغنية، مع هيمنة كبيرة للأسر التي تنتمي للمجالات التعليمية والتربوية (تشكل 50 في المائة من نسبة 84 في المائة). وورد في التقرير أن الفئات الفقيرة لا تشكل سوى نسبة 16 في المائة، وتضم بأغلبية ساحقة آباء يعانون من البطالة، أو العجز التام، أو كلاهما معا. الهوية والانتماء وبخصوص الفئات العمرية التي يستقطبها الخطاب الديني المتطرف، أوضح التقرير أن الفئة العمرية المستهدفة بشكل أكبر هم الشباب المتراوحة أعمارهم بين 15 و21 سنة؛ إذ وصلت نسبتهم إلى 63 في المائة. أما نسبة 37 في المائة المتبقية فتشكلها الفئة العمرية ما بين 21 و28 سنة، وهو ما يجعل الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 30 سنة شبه منعدمين. في المقابل، أماط التقرير اللثام عن تحول مزعج آخر تمثل في كون التقارير السابقة للمركز كانت تشير إلى أن الشبان الذين يستهدفهم الخطاب الراديكالي هم من كانوا يحسون بأنهم «بدون أرض»، و«لا ينتمون لأي وطن»، ويظهر عليهم بأنهم يحملون «ثقوبا في الذاكرة»، إلا أن الأمر لم يعد كذلك، ف«الخطاب الإرهابي الجديد تمكن من الوصول إلى فئة من الشباب يحسون بالانتماء لتاريخهم، سواء كان أجدادهم قد حلوا بفرنسا من الخارج أم لا. إن العلاقة السببية بين النزوح، والهجرة، وبصيغة مبسطة «الانتماء لرقعة جغرافية» لم تعد تظهر على أنها مؤشر حاسم يمكن الاعتماد عليه لتحديد ملامح فئات الشباب الذين يلمسهم الخطاب الإرهابي الجديد»، كما ورد في التقرير. التقرير ذاته أكد أنه ليس مفاجئا في شيء ما انتبه إليه المدرسون الأوروبيون، الذين حددوا عددا من طلبتهم ضمن التنظيمات الإسلامية المتطرفة، موضحا أن الخطاب المتطرف كان يستهوي في المقام الأول الشباب الذين كانوا يشعرون بعدم الانتماء لمكان محدد وبعدم وجود أي دور يمكن أن يلعبوه داخل المجتمع. كما جاء في التقرير أن تبني الفكر المتطرف، سواء تعلق الأمر بالمسلمين أو بغيرهم، يهم في البدء نفس الفئات الاجتماعية، والمتمثلة في أبناء الجيل الثاني من المهاجرين، والطبقات الشعبية الهشة، والأقليات البارزة، والشبان الذين هم في قطيعة مع المجتمع ويبحثون عن قضية يدافعون عنها. غير أن التقرير حذر من أن هذا المعطى أضحى متجاوزا، بعدما نجح الخطاب المتطرف في النفاذ إلى كافة الطبقات الاجتماعية الفرنسية، وأصبح قادرا على تغيير قناعات «طالب يدرس بإحدى المدارس الكبرى أو بطلة في السباحة، تشق طريقها نحو المجد وتحقق الرقي الاجتماعي»، كما جاء في التقرير. وفي الشق المتعلق بطرق استقطاب الشبان الفرنسيين ضمن التنظيمات المتطرفة، ورد ضمن التقرير أن 98 في المائة من الخطاب الإسلامي المتطرف يعتمد على الشبكة العنكبوتية كوسيلة اتصال، بفضل مع ما توفره من إمكانيات تتجاوز إكراهات الحيز الزمني والمكاني، وتتلاءم مع مواصفات إنشاء شبكات التنظيمات. «منذ وقت طويل تم توظيف المجال الافتراضي بشكل مثالي من أجل الاقتراح على الشباب الانضمام إلى مجموعة تنشد التحول الافتراضي عبر العالم الافتراضي»، يقول التقرير، الذي زاد موضحا: «بيد أنه مؤخرا، ومنذ إنشاء الخلافة المزعومة لأبي بكر البغدادي، المتمثلة في الدولة الإسلامية، بدأنا نعاين أن المجال المقترح على الشبان الذين يتم استقطابهم أصبح حقيقيا وموجودا فعليا؛ والمتمثل في الأراضي المتواجدة بها أراضي النفط بسوريا والعراق، حيث ترفع الدولة الإسلامية رايتها». القطيعة ومسح الذاكرة وضمن المحور المتعلق بتحليل مراحل الاستقطاب والقطيعة مع المجتمع، أورد التقرير أن الأبحاث السابقة التي أنجزها المركز أوضحت أنه يتم منح الشباب مساحة بديلة تفوق كل المساحات الحقيقية، ويعمد الخطاب الديني المتطرف إلى جعل الشبان يدخلون في قطيعة تامة مع كافة الأشكال المعتادة التي تكفل لهم التنشئة الاجتماعية؛ بما في ذلك المدرسين، والأطر التربوية، والآباء، وحتى الأئمة حينما يتعلق الأمر بالمسلمين. وأضاف التقرير أن خطاب الأصوليين لا ينتج ثقافة جديدة، بل «يسعى في الأساس إلى جعل الأفراد يدخلون في قطيعة مع ثقافتهم، وذلك بغية منح الامتياز لما يصفونه ب «التدين الحقيقي»،» كما جاء في التقرير، الذي أضاف بأن: «الإحساس بأن المجتمع العلماني هو وثني يفضي بالضرورة إلى الشعور بتفوق المجموعة. وبصيغة أخرى، ومن أجل تفادي السقوط في ظمور تام، يتعين فرض شعور بالانتماء إلى مجموعة أكثر طهرا، وأعلى شأنا من الجميع». هذه القطيعة، تفضي حسب التقرير، إلى طمس الهويات الفردية بغية تأسيس هوية موحدة للمجموعة؛ بشكل يجعل أوجه التشابه بين الأعضاء الصادقين تتقلص بشكل تدريجي إلى الدرجة التي تجعل كل شاب على حدة يفقد ملامح هويته الأولى. وفيما يتعلق بهذا الجانب ورد في التقرير: «لا تدعو خطابات الأصوليين إلى تبني ثقافة جديدة لكنها تسعى إلى قطع حبل السرة بين الأفراد وثقافتهم. ومن أجل القيام بطمس المعالم الشخصية لكل فرد وتسريع الاندماج داخل المجموعة، يقوم الأعضاء الصادقون بالتشديد على أهمية التشابه بين أفراد المجموعة، وذلك من خلال فرض نمط معين في اللباس وأشكال في السلوك مماثلة، تقلل من شأن الفوارق الأسرية والجنسية». كما أوضح التقرير أن هاته المنهجية تمكن التنظيمات المتطرفة من تقوية أوجه الاختلاف مع «الآخرين غير الصادقين»، مؤكدا أن تلك التنظيمات تضع لغة مشفرة من أجل تعرف أفراد المجموعة على بعضهم البعض والتميز بشكل راديكالي عن الآخرين. «النقطة المشتركة الوحيدة التي يتقاسمها الشبان الذين تم استقطابهم هي فرط حساسيتهم تجاه المجتمع»، تقول دنيا بوزار في تصريح لإذاعة «بي إف إم» الفرنسية، قبل أن تضيف «يتعلق الأمر بشبان يطرحون تساؤلات وجودية، ويبحثون عن قضية أو مثال أعلى يحتدون به. هؤلاء هم الضحايا الذين يسهل الإيقاع بهم». ألعاب الفيديو كما اتضح لفريق الباحثين أن التنظيمات المتطرفة توظف نظريات المؤامرة من أجل جعل المجموعات مندمجة بشكل أكبر، وجاء في التقرير أن الخطاب الأصولي يرتكز على تمجيد المجموعة، عبر التركيز المكثف على نقاط الاختلاف مع الآخرين الموجودين في العالم الخارجي وتكثيف التركيز على النقاط المتشابهة مع أعضاء المجموعة. وتكمن المرحلة الثانية، حسب التقرير، في إقناع الشباب الذين تم استقطابهم بأنه وبما أن التنظيم الأصولي يملك الحقيقة فذلك يجعل المنتمين للتنظيم مطالبين بإنقاذ العالم وتصفية كل الذين يريدون منعه من إرساء هذه الحقيقة. «بما أن الأعضاء الصادقين يدفعونهم إلى الاعتقاد بأنهم «المختارون» لخلق عالم جديد، يتعين مسبقا إقناعهم بوجود مؤامرة يدبرها الأقوياء من أجل السيطرة على الضعفاء»، كما ورد في التقرير. وعن الطرق التي يقوم من خلالها الأصوليون بنشر خطابهم المتطرف، قال التقرير إن الإرهابيين يستغلون كافة الوسائل من أجل الوصول إلى تحقيق أهدافهم؛ إذ يعمدون إلى الرجوع إلى أي شيء في الإسلام، ويقومون باجتثاثه من السياق الذي ورد فيه، وتوظيفه حسب أهوائهم بعيدا عن المقصد الرئيسي الذي جاء من أجله. في المقابل، أبرز التقرير الفرنسي أن الأصوليين يستغلون حرية المعتقد داخل المجتمع الفرنسي، من أجل تسهيل عملية نشر خطاباتهم، موضحا أن التنظيمات المتطرفة سعت إلى إعطاء تفسير جديد للإسلام، وقامت بفرض رؤيتها الخاصة للعالم الشمولي بمباركة من بعض الجمعيات التي تعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان، وكذا جمعيات الحفاظ على الرابط الاجتماعي، في حين تقود تلك التنظيمات المئات من الشبان إلى الدخول في قطيعة اجتماعية وأسرية، وتقوم باستقطاب الأشخاص الأكثر هشاشة. كما توقف التقرير بشكل مستفيض عند الدراسة والتحليل اللذين قامت من خلالهما التنظيمات الأصولية باجتثاث مفاهيم ك «الجهاد» و«الهجرة»، و«قيام الساعة» من سياقها بغية تسخيرها، بالإضافة إلى عدد من الصور المقلدة من تاريخ الإسلام، من أجل استقطاب الشباب الفرنسي ونشر الخطاب الأصولي. ومن أجل بث الخطاب الأصولي، أوضح التقرير أن التنظيمات الإرهابية تعتمد على «الصور اللاشعورية» (subliminales) التي تظهر بأشكال متفاوتة ومختلفة في شرائط الفيديو التي تنشر الدعاية للتنظيمات. وفي هذا الصدد، أبرز التقرير أن تلك الصور تضع الشباب أمام عالم مألوف لديهم وتمكنهم من الانخراط بسهولة في الخطاب الذي يلقى عليهم. فريق العمل الذي أنجز الدراسة الميدانية أشار إلى أنه قد سعى إلى تحليل العوامل التي تجعل عملية استقطاب الشبان تتم بوقت أسرع، وأبرز في هذا الإطار أن الصور التي تعتمد عليها التنظيمات الإرهابية يطغى عليها الاعتماد على المشاعر كوسيلة التحسيس الأكثر فعالية. وخلص التقرير إلى أن التنظيمات الأصولية تعتمد كذلك على شرائط الفيديو بما أنها تستهدف فئة من الشباب من المتعودين على صور ألعاب الفيديو والأفلام السينمائية. ومن أجل التعرف عن قرب على هذه الظاهرة، قال الباحثون إنهم قد سعوا إلى دراسة الاستقطاب على نحو مرتب زمنيا، عبر تحليل المراحل المختلفة لنشر الصور اللاشعورية؛ التي تبدأ بمرحلة التعرف، ثم تليها مرحلة تمرير الصور عبر وسائط تلفزية وسينمائية يصبح خلالها الشاب مستلبا أمام الشاشة (عبر عرض أفلام كماتريكس وسيد الأخثام)، فيأتي الدور على المشاركة الافتراضية من خلال ألعاب الفيديو (مثل لعبة أساسنز كريد)، التي تسهل بعد ذلك توجه الشباب نحو المواجهة الحقيقية.